صحيفة الحياة
نتائج الانتخابات الرئاسية في مصر، مثيرة ومدهشة وربما صادمة، كأنها تثأر من المصريين الذين اعتادوا لعقود طويلة على انعدام المفاجأة وغياب الدهشة، تحت وقع انتخابات كثيرة معلبة ونتائج طالما كانت مقررة، غير أنه أمر لا بد من أن يطرح تساؤلاً.

 لماذا كل تلك المفاجآت والمفارقات، على الضد من بلدان كثيرة تعكس فيها الاستطلاعات، وميول الرأي العام حقية السباق وتشي بنهايته؟ يمكن هنا تلمس الإجابة في عاملين أساسين:

الأول يتمثل في درجة النضوج السياسي لتلك البلدان المستقرة ديموقراطياً على نحو يجعل الصراع بين برامج وأفكار تعكسها التيارات الإيديولوجية الرئيسة في المجتمع خصوصاً بين اليمين واليسار، كما يقلص أطراف التنافس إلى اثنين أو ثلاثة على الأكثر وهنا تكون أرض المعركة واضحة، وخيوطها الفاصلة واضحة على نحو يسهل من عملية الاختيار، وذلك على العكس مما دار في مصر من تنافس غائم بين ثلاثة عشر مرشحاً بقيت برامجهم إما غير واضحة وإما غير محورية من وجهة نظر الناخبين الذين بدوا مندفعين نحو مرشحيهم لاعتبارت أخرى كثيرة لعبت فيها أنماط التدين، والانتماءات المذهبية، والمواقع الجغرافية، والموقف من النظام السابق، أدوار مهمة أكثر مما لعبت فيها طبيعة النظرة إلى المستقبل، وشكل النظام المراد بنائه في مصر.

أما الثاني فيتمثل في تعمق الوعي الفردي لدى المواطن كـ (كائن سياسي)، على نحو تختفي معه أنماط السلوك التصويتي القائمة على الحشد، وتقل نسبة الذين لم يحددوا مواقفهم إلى الحد الأدنى، والذين يتركون خياراتهم للحظة الأخيرة نهباً للدعاية حتى أمام اللجان يوم التصويت نفسه، فكلما زادت نسبة هؤلاء كلما خضعت عملية التصويت للصدفة والأهواء وبعدت من المنطق والعقل السليم، وهو الأمر الذي نظنه قد ساد الانتخابات الرئاسية الأولى في مصر، إذ لم تقم على الاختيار الحر والمسؤولية الفردية، خصوصاً في ما يتعلق بجمهور المتدينين الذين اعتادوا التصويت للتيار الإسلامي وفق قاعدة السمع والطاعة سوى من الأعضاء المنتمين تنظيمياً لهذا التيار أو حتى المتعاطفين معه.

ولا يلغي ذلك حقيقة أن المناطق الحضرية خصوصاًً في القاهرة والإسكندرية قد شهدت نمطاً تصويتياً حديثاً يتجاوز منطق الحشد وفكرة القطيع، حيث شهدنا العائلة الواحدة التي يصوت أعضائها تصويتاً فردياً فيعاكس كلاً منهم الآخر، موزعين على مرشحين وأحياناً ثلاثة أو أربعة، إلا أن هذا النمط التصويتي لم يكن هو القاعدة الأساسية، بل الاستثناء الذي يثبتها، كما انه يفسر تراجع المرشحين الفائزين بجولة الإعادة في المدينتين الكبيرتين، فيما تفوق المرشح الثالث حمدين صباحي، بل أن تفوقه في الإسكندرية كان كاسحاً بقدر ما كان مفاجئاً.

المشكلة الأعمق لا تكمن فقط في مفارقات النتائج بل في المزاج السياسي الذي جاء محافظاً بشدة، يكاد يحصر مصر في دائرة التنافس القديمة بين النظام السلطوي البائد، والتيار الديني المحظور، فثنائية شفيق - مرسي، تعكس تماماً ثنائية مبارك - بديع السابقة على 25 يناير ولو شكلياً على الأقل، حينما فرض النظام سلطويته مبرراً لها بأن بديله ليس إلا التطرف الديني، الأخطر على الدولة المدنية، ترهيباً للنخبة الثقافية والسياسية ذات الميول الحديثة، التي استنامت لتلك الثنائية، تمسكاً بأهداب حداثة سلطوية ارتكزت إلى الشمولية السياسية، وإن كانت أكثر تفتحاً على الصعيد الاجتماعي وانفتاحاً على الصعيد الثقافي.

اليوم نجد طرفي الثنائية الصراعية نفسها في حال تواجه، ولكن مع تغاير في أرضية الصراع التي صارت ديموقراطية لا سلطوية، ما يعني أن التناقض لم يعد قابلاً للتجميد بل صار تناقضاً متحركاً جدلياً لا بد من أن يمارس منطقه، وأن يصل إلى غايته.

أحد المسارات إلى هذه الغاية يتمثل في فوز المرشح الإخواني مرسي وهنا قد نجد مصر تتجه إلى نوع من المحافظة الثقافية والاجتماعية، يقتضيها المزاج الإخواني والمفترض له أن يقترب مما يعتقده (التقاليد الإسلامية) الذي انتخب للحفاظ عليها، ناهيك عن مسألة إشكالية أكثر جذرية من قبيل تطبيق أحكام الشريعة وليس فقط مبادئها، وما يقتضيه من ليّ عنق نمط الحياة المصري المتفتح والوسطي الذي ساد القرن العشرين على الأقل، والذي رافق ميلاد الدولة المدنية الحديثة منذ القرنين على الأقل، والتي لا يمكن اعتبارها كشفاً جديداً أو مشروعاً قيد البناء كما يتصور أنصار التيار الديني الذين يصورون هذه الدولة باعتبارها هجوماً خطيراً (علمانياً) على المجتمع والثقافة المصرية المستقرة، على رغم أن التيار المدني المصري لا يطالب بجديد سوى الخلاص من الاستبداد الذي رافق هذه الدولة المدنية، لا الخلاص منها ذاتها.

أما المسار الثاني للجدل بين طرفي الثنائية المصرية الراهنة فيتمثل في فوز الفريق شفيق، وهو مسار يبقي للدولة المدنية المصرية الموروثة، ظلال عسكرة ترجع إلى شخصية الفريق نفسه، كما تكمن في موقع الجيش في النظام السياسي وهي القضية التي لم تحسم بعد، ويتوقع أن يؤدي فوز شفيق إلى حسمها لمصلحة الجيش ولو بقدر معين. كما يبقي على معارضة دينية قوية وفعالة موروثة من الماضي وإن تغير أفقها المستقبلي، فهي معارضة شرعية من داخل النظام لا سرية من خارجة، معارضة تجادل السلطة القائمة وتواجهها بدلاً من خشيتها والهروب منها، معروف خطابها، معلومة مواقفها، بدلاً من كونها محظورة أو مضطهدة.

قد يؤدي هذا النمط الجديد من حضور المعارضة إلى تفكيك الثنائية الضدية المزمنة والعمل على إذابتها تدريجاً بتحول داخلي في فكر التيار الديني نحو الاعتدال، وتحول مواقف السلطة منه نحو الاستيعاب والتعايش، وهنا تسير مصر على الطريق الصحيح، نحو تعميق تجربتها الديموقراطية. وقد يؤدى على النقيض، إلى إثارة صراعات حية/ عملية/ واقعية حول كل المشكلات القائمة والتحديات الراهنة، بحيث تكون شرعية البرلمان دوماً ضد سلطة الحكومة، ويتبلور دور الجماعة في مناهضة دور الرئيس رغبة في إفشاله بغرض وراثته في الانتخابات المقبلة. وهو أمر قد يؤدي، في المقابل، الى شلل دولاب عمل الدولة، وتوتر الرئيس واندفاعه نحو تقويض سلطة البرلمان، بحله مثلاً، طالما تعثر تجاوزها. وهنا تسير مصر نحو تفجير الاستقطاب والعودة إلى نقطة صفر قد تكون في انفجار ثورة ثانية أو، في انقلاب عسكري، يبدأ بعده الشروع في إعادة بناء النظام السياسي من جديد، بعملية تبدأ بوضع دستور جديد، ما يعني أن تصير المرحلة المقبلة بعد انتخاب الرئيس مرحلة انتقال (متأخرة)، فيما تندفع المرحلة الممتدة بين 25 كانون الثاني (يناير) 2011 و17 حزيران (يونيو) 2012 إلى غياهب التاريخ باعتبارها فرصة ضائعة أو فترة عبث لا مرحلة انتقال.