Translate

هذه هي آخر منتجات قمت بمشاهدتها Souqموقع الويب الخاص بـ:
في الأغلب، انتهى الأمر بالأشخاص الذين قاموا باستعراض هذه المنتجات إلى اختيار المنتجات التالية:

الأربعاء، 6 يونيو 2012

أوراق من ثورة 23 يوليو 1952



مقدمة
اتسعت تأثيرات حركة 23 يوليو/ تموز 1952 مع توالي الأيام الى كافة الجوانب في حياة مصر، محققة جملة من التغييرات الجذرية في مختلف البنى السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وقد مست شؤون الإنسان المصري وشجونه عندما سعت واجتهدت في البحث له عن مخرج لما يواجهه من أزمات، وحلول لما يخوضه من تحديات، فهي لم تتوان عن إعلان مراميها في تحقيق العدالة الاجتماعية، بعدما رسمت منذ الوهلة الأولى خطواتها
على طريق استقلال البلاد الناجز، سالكة الطريق الاشتراكي حلاً للمشاكل الاجتماعية والاقتصادية، ولذلك استحقت تلك الحركة عن جدارة بما أنجزته في زمن قياسي أن توسم بـ(الثورة)، بكل ما يعنيه المفهوم والمصطلح من معنى ودلالة، تبدى أولاً في القطيعة مع المرحلة السياسية السابقة، وثانياً في التجديد خلال المرحلة اللاحقة.
امتدت تجربة 23 يوليو الثورية من فضاء مصر الى ربوع الوطن العربي من أقصاه الى أقصاه، وشكلت بمجمل متبنياتها مركزاً محفزاً وداعماً لقضية التحرر الوطني في كثير من البلدان العربية كالجزائر والعراق والسودان وليبيا، وأصبحت في مدار عمرها الفعلي في مدى عقدين من السنين أنموذجاً حافلاً بالكثير من مضامين النهوض والتقدم، وان جنحت في مسارها الى التجريب، إلا انها حفلت بجوانب مضيئة سواء في ممارسة الحكم أو التخطيط والبناء من اجل المستقبل، مثلما ضمت اخطاءاً وإخفاقات في جوانب أخرى.
خاضت ثورة 23 يوليو تحدي الاستقلال وغمار المواجهة مع انساق الاستعمار، ووقفت بثبات إزاء التبعية للأنظمة الرأسمالية والاحتكارية، وحاربت الاحتلال الصهيوني، واضعة قضية فلسطين على صدارة مهامها، فاضطلعت بدورها الوطني والقومي معبرة عن طموحات وامال الجماهير، حينما تبنت مسألة التنمية والنهوض الاقتصادي، وجنحت نحو الطريق الوحدوي حلاً لمشاكل الأمة العربية الوطنية والقومية.
حصدت تلك التجربة الثورية بكل حيثياتها ومعطياتها مناصرين وخصوم، فنظر البعض من مناصريها اليها بمثابة أيديولوجية منسجمة مع الواقع العربي، وعد البعض منهم خطاها على انها منهج وبرنامج، وأجمع المناصرون على ضرورة الاقتداء بها، في حين وقف أعداؤها في ضفة الاختلاف والضدية للنيل منها، يراكمون الأخطاء والإخفاقات والمثالب على مسيرتها، خصوصاً في مجال الحريات والممارسة الديمقراطية، وبعيداً عن مدار المواقف المتناقضة تجاهها، فأن معطياتها لم تنطفئ، ومازالت أثارها حتى الآن ماثلة على ارض الواقع، لاسيما حين استطاعت تكوين تيار فكري وسياسي، هو الآخر مازال فاعلاً في الفضاء العربي السياسي والفكري، فهي إذن جديرة بالدراسة الموضوعية والبحث الحيادي.
تمهيد
احتلت القوات البريطانية مصر عام 1882 عقب انتكاس الثورة العرابية، فدخلت مصر مرحلة جديدة من التبعية السياسية الكاملة لبريطانيا، وأن ظلت تابعة من الناحية الشكلية للإمبراطورية العثمانية، وعلى اثر ذلك سخرت بريطانيا كل إمكانيات البلاد لخدمتها في الحرب العالمية الأولى بعدما فرضت الحماية عليها. وأسقطت السيادة العثمانية في 28 ديسمبر/ كانون الثاني 1914.
حققت ثورة الشعب المصري سنة 1919 نتائج ايجابية محدودة، ومن ابرز تبدياتها، صدور تصريح 28 فبراير/ شباط 1922 الذي أعلنت فيه انجلترا إنهاء الحماية البريطانية على مصر، وأعلن استقلالها الشكلي يوم 15 مارس/ آذار، ولعل من أهم معطيات الثورة إجبار الاستعمار والسراي معاً على وضع الدستور، وهو الذي أصدره الملك فؤاد عام 1923، وكان دستوراً ليبرالياً يكاد يكون منسوخاً من الدستور البلجيكي، وأتيح المجال في ظله لعمل عدد من الأحزاب الليبرالية تلك الفترة، مثل: الحزب الوطني، حزب الوفد، حزب الأحرار الدستوريين، حزب الاتحاد، حزب الشعب، حزب مصر الفتاة، حزب السعديين، حزب الكتلة الوفدية، حزب الفلاح، جبهة مصر.
انتقلت علاقة مصر وبريطانيا الى مرحلة أخرى بعدما عقدت معاهدة عام 1936، التي رضيت بها الأحزاب القائمة في ذلك الوقت، وعلى رأسها حزب الوفد، وبذلك أعطت المعاهدة للاحتلال البريطاني صفة الشرعية، بينما لم تحقق السيادة والاستقلال بمعناها الصحيح، ذلك المؤشر الذي يؤخذ على القيادة الوفدية، إذ يرى بعض من الباحثين والمراقبين بأنها انحرفت عن المصالح الوطنية، وانصرفت صوب ما فيه إشباع المنافع الذاتية.
تولى الملك فاروق سلطاته الدستورية في 29 يوليو/تموز 1937، وهو في الثامنة عشر من عمره، متبدءاً عهده بإقالة وزارة الوفد في 29 ديسمبر/ كانون الأول 1937، وهكذا عصف الملك بإرادة الشعب وبروح الدستور، وعين محمد محمود باشا رئيس حزب الأحرار الدستوريين، وتوالت فيما بعد على الحكم وزارات أحزاب الأقلية. ولم يتح للوفد –وهو حزب الأغلبية- أن ينفرد بالوزارة أكثر من أربع سنوات وعشرة شهور في مدد متقطعة منذ أن تولى فاروق العرش حتى يناير/ كانون الثاني 1952.
كان كبار الملاك الزراعيين بصفة عامة على علاقة بكل الأحزاب السياسية التي شهدها المجتمع المصري خلال الفترة، فقد كان الانتماء السياسي لكبار الملاك نوعاً من الرفاهية السياسية وقدراً من السلطة في نفس الوقت.
الأوضاع الاجتماعية قبل سنة 1952
ظلت الحريات في البلاد زمن وزارات الأقلية مكبوتة بسبب الأحكام العرفية، وفرض الرقابة على الصحف، لدرجة عرضت الشعب للضغط العنيف من جانب الطبقة الحاكمة، وازدادت موجة الغلاء بإطراد حيث أثقل الغلاء الذي لا عهد لمصر بمثله كواهل الشباب، وسد أمام طموحاتهم الطريق، فلم تكن هنالك قوانين تحمي العامل أو تؤمنه، بل أن كثيرين من خريجي الجامعة، كانوا لا يجدون وظيفة إلا بصعوبة بالغة، وبمرتب يبلغ نحو عشرة جنيهات شهرياً.
فشلت أحزاب الأقلية في قيادة الدولة، وزاد شعور المصريين المعادي لسياسة بريطانيا مع استمرار الحرب العالمية الثانية، حتى بلغت أزمة التموين حداً أشاع القلق والسخط، وأطلق المظاهرات في شوارع القاهرة، واجبر بريطانيا على الاقتناع بضرورة رفع الحظر الذي فرضته على السراي ضد حكم حزب الوفد، واثر تلكؤ الملك فاروق في الاستجابة لاستمرائه في الحكم في ظل حكومات ضعيفة تابعة، قام السفير البريطاني بتقديم إنذار في 4 فبراير/ شباط 1942 يخير الملك بين التنازل عن العرش أو تشكيل وزارة وفدية، فقبل الملك الحل الثاني.
عانت مصرـ برغم عدم اشتراكها الفعلي أو الرسمي في الحرب العالمية الثانية ويلات ونكبات وضيقاً ليس مثله ضيق، مثلما أصابت المجتمع المصري في أخلاقياته وعلاقاته الاجتماعية وقيمه، فأعقب الحرب نوع من الشعور بنفعية الحياة والأثرة لدى البعض، وازداد الساسة فساداً والحكام انحرافاً وكثر الوسطاء والمرتشون واللاهثون وراء الثروة، وتدخل رجال الحاشية في كل شئ، وأقدم الملك على تصرفات شخصية أذى بها المشاعر العامة، مما جعل الاستياء يعم مختلف أنحاء البلاد، وأخذت عوامل السخط ضد الاستعمار والسراي والمصالح الاحتكارية ومظاهر الفساد الذي ساد الحياة العامة، وبدأ الشعب المصري يضغط تدريجياً بقوة، وتجلى ذلك في المظاهرات المتكررة حيناً، وفي كتابات الأحرار في الصحف والمجلات وحملاتهم المتكررة على الحكومة والسياسة الاستعمارية حيناًَ أخر، وأخذت تظهر في الميدان جماعات تتجسد فيها تلك المعاني، وان اختلفت اتجاهاتها وتباينت أساليبها ووسائلها.
الأوضاع الاقتصادية قبل سنة 1952
تأثر الاقتصاد المصري اثر انقطاع الملاحة التجارية بعدما قامت الحرب العالمية الثانية، وأصبح على مصر أن تصل الى الاكتفاء الذاتي، فأرغم الفلاحون على ترك زراعة القطن، ووضعت لهم تشريعات معينة لكي يزرعوا مساحات بذاتها بالمواد الغذائية التي تستهلك داخلياً، فلا تعود للفلاح بثمرة مجزية، وقد تحولت الرأسمالية المصرية هذه الفترة فصارت احتكارية متصلة بالمصالح الأجنبية، وممعنة في الاستغلال والإثراء على حساب الجماهير، ودفعتها المصالح الى تمتين ارتباطها بالقصر والإقطاع.
كان الاقتصاد المصري قبل ثورة 23 يوليو يعتمد أساساً على الزراعة التي يكفي إنتاجها معظم احتياجات الغذاء اللازم للشعب المصري في إطار أنماط الاستهلاك القائمة آنذاك، والتي كانت بطبيعة الحال تعكس انخفاض مستوى دخل الفرد، كذلك انخفاض مستوى المعيشة للغالبية العظمى من الشعب.
وقد وصف الاقتصاد المصري في تلك الفترة بأنه اقتصاد راكد، تمييزاً له عن الاقتصاد النامي، ومعنى ذلك أن القدرة الإنتاجية أو الطاقة الإنتاجية لا تزيد بمقدار يتماشى مع الزيادة في عدد السكان.
وتجدر بنا الإشارة الى أن أحدى الدراسات التي تناولت كبار ملاك الأراضي الزراعية في مصر للفترة 1914-1952، قد أثبتت وجود ظاهرة من الاندماج بين رأس المال الزراعي المستثمر في الأرض ورأس المال الصناعي والتجاري، إذ امتلكت صفوة كبار ملاك الأراضي الزراعية أسهماً في الشركات التجارية والصناعية، بل ان معظمهم قد أسس شركات من ذلك النوع، وكان الاختلاف في بداية الاستثمار فقط، فقد يبدأ من الأرض الزراعية وينتقل الى التجارة أو الصناعة، وقد يكون العكس.
لقد بلغ سوء توسيع ملكية الأرض الزراعية منتصف القرن العشرين درجة لم يبلغها من قبل في تاريخ مصر، ويكفي للتدليل على ذلك إيراد بعض المؤشرات الرقمية، فمن مجموع مساحة الأرض الزراعية الكلية الذي بلغ ستة ملايين فدان كان هناك ألف مالك كبير يسيطرون على حوالي 20% من تلك المساحة (1.1مليون فدان)، تليهم فئة قوامها ثلاثة الآف مالك يسيطرون على حوالي 8%، ثم فئة ثالثة قوامها ستة آلاف مالك يسيطرون على 7% وهذه الفئات الثلاث لا تتجاوز عددياً أكثر من (11000) مالك، يمثلون اقل من نصف بالمائة من مجموع الملاك، ولكنهم يملكون 35% من جملة أرض مصر الزراعية، وفي مقابل ذلك كان هناك 2.6 مليون مالك ممن لا تتجاوز حيازتهم خمسة أفدنة يمثلون أكثر من 94% من مجموع الملاك.
لقد ترتب على تركز الملكية الزراعية في مصر ونظام الاستغلال الزراعي الذي اتبعه كبار الملاك في أراضيهم، نتائج هامة فيما يتعلق بتوزيع الدخل الزراعي بين السكان وهبوط مستوى الأجور بين عمال الزراعة، وخلق فئة من مستأجري الأرض الزراعية كانت تزداد يوماً بعد يوم، مما اوجد فوارق اجتماعية واضحة بين من يملكون وسائل الإنتاج وبين من لا يملكون غير قوة عملهم يبيعونها لأصحاب الثروات مقابل أجور زهيدة لا تتناسب مع مطالب الحياة.
الأوضاع السياسية قبل سنة 1952
بدأت مرحلة جديدة من مراحل النضال الوطني في مصر ضد الاستعمار مع انتهاء الحرب العالمية الثانية، تكللت بإنهاء الرقابة على الصحف في 9 يونيو/حزيران 1945، كما جرى إلغاء الأحكام العرفية في 14 أكتوبر/ تشرين الأول. وتبدت مظاهر هذه المرحلة بوضوح في مطالبات بعض الساسة المصريين –مثل النحاس والنقراشي- الساعية الى جلاء القوات البريطانية، وتعددت أنشطة الجماهير في تنظيم المظاهرات واحتدام المصادمات مع الجيش في القاهرة واتساع المقاومة الشعبية الى مختلف المدن، ووصلت ذروتها الى حد تعطيل الحياة في القاهرة وتقديم شهداء من الشعب المصري في هذه المواجهات.
شغلت قضية الاستقلال الحياة السياسية بصورة عامة حيث كانت مصر تموج بعوامل السخط والثورة، فالقضية الوطنية معلقة، ولم يحدث أي نجاح في حلها بما يحقق الأماني الوطنية والقومية، وجنود الحلفاء يملأون شوارع القاهرة، والسياسة المصرية تتعثر بين ممالاة البريطانيين وتملق الأماني الوطنية.
حمل النقراشي، رئيس الوزراء، القضية المصرية الى نيويورك في 22 يوليو/ تموز 1947 لعرضها على مجلس الأمن، إلا ان تلك الجهود باءت بالفشل حيث حصلت مصر على تأييد مطالبها بجلاء الانجليز عنها، أصوات ثلاثة مندوبين فقط، وهم المندوب السوري والسوفيتي والبولندي، من سبتمبر / أيلول 1947 وبداية سنة 1948، فانفجرت المظاهرات الشعبية، وزادت إضرابات العمال زيادة ملحوظة في سبتمبر/ أيلول 1947، وتوالت مظاهر الحراك الشعبي الناقم، وأصبحت ابرز مظاهر الحياة، حيث شغلت المدة الزمنية أواخر تلك السنة حتى بداية سنة 1948.
تزامنت حالة الاحتقان التي يعاني منها المجتمع المصري بسبب قضية الاستقلال الوطني وتدهور الأوضاع الاقتصادية ومصادرة الحريات مع قضية فلسطين التي قامت بريطانيا بعرضها على الأمم المتحدة، وانتهت الى إصدار قرار التقسيم في 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 1947. وكان قرار الأمم المتحدة الخاص بتقسيم فلسطين قراراً جائراً، إذ بلغ عدد اليهود في سنة 1947 اقل من ثلث سكان فلسطين، وكان عُشر هؤلاء هم وحدهم جزء من السكان الأصليين المنتمين الى البلاد، أما بقية السكان اليهود، فكانوا من اليهود المهاجرين واغلبهم من أصل بولندي وروسي ومن أوربا الشرقية.
عارضت الأحزاب والتنظيمات السياسية المصرية قرار التقسيم ودعت بعضها- مثل الإخوان ومصر الفتاة- الى الكفاح المسلح ضد الصهيونية، وكان تيار التطوع يزداد تدفقاً من الشارع المصري، بالاتساق مع مقررات مجلس جامعة الدول العربية الذي كان قد عقد اجتماعاً في لبنان بين 7-15 أكتوبر/ تشرين الأول 1947-أي قبل صدور قرار التقسيم، وقضى ذلك الاجتماع بتحشيد جيوش الدول العربية على حدود فلسطين، وتقديم السلاح الى عرب فلسطين، وتدريب الشباب وتعبئتهم للمعركة المقبلة في المناطق المتاخمة لليهود، فضلا عن إنشاء قيادة عربية تتولى الأمر، ورصد مبلغ من المال يوضع تحت تصرفها لا يقل عن مليون جنيه.
اتخذت الحكومة المصرية -حكومة النقراشي- قرارها بدخول الحرب بثقة عالية في إحراز النصر، حيث رد النقراشي في جلسة البرلمان على احد المعترضين –إسماعيل صدقي- بأنها نزهة للجيش، ولم يكن الملك فاروق اقل تحمساً للقتال من غيره، بل انه بادر بتحريك الجيش قبل موافقة البرلمان عن طريق إعطاء الأوامر لمحمد حيدر وزير الدفاع دون علم رئيس الوزراء، ودخل الجيش المصري ارض فلسطين يوم 15 مايو/ أيار 1948، وصحب دخول المعركة عدة إجراءات، أنهت فترة المد الثوري التي بدأت مع انتهاء الحرب، كالأحكام العرفية، والاعتقالات للمناضلين،والرقابة على الصحف، وتقييد الاجتماعات العامة وبذلك وجهت ضربة للحريات الشعبية.
انتهت حرب فلسطين بهزيمة الدول العربية، وعانى الجيش والسياسية المصرية من تداعياتها حيث ترتب على الهزيمة رد فعل قوي خارج الجيش وداخله، ولعل ابرز تلك المظاهر لجوء بعض فصائل الحركة السياسية في مصر-كالإخوان المسلمين- الى أعمال الإرهاب والاغتيالات واستخدام العنف ضد الخصوم، وحرق المحال التي يمتلكها يهود في مصر، وأشار أحد الباحثين الى تلك الأحداث وما أفرزته حرب فلسطين بمرارة، قائلاً: "ان المقارنة بين بنود اتفاقية الهدنة في 24 فبراير/ شباط 1949، التي أقرت الأوضاع القائمة وأعطت الفرصة لإسرائيل بالاستيلاء على صحراء النقب والوصول الى ايلات، وبين قرار الأمم المتحدة الخاص بالتقسيم في 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 1947، يوضح بأن العرب قد فقدوا فرصة إقامة دولة عربية مستندة الى قرار الأمم المتحدة، وفقدوا جانباً كبيراً من الأرض التي كانت قد منحها لهم قرار التقسيم".
كانت الجيوش العربية ضعيفة التسليح، تمثل دولاً تابعة للاستعمار، وتمزقها الخلافات الشخصية والمطامع السياسية، ويسودها الفساد الداخلي والتخلف الاقتصادي، ولا غرابة أذا ما انتهت حرب فلسطين بتوقيع أربع اتفاقات هدنة، واحدة مع مصر في 24 فبراير/تشرين الثاني 1949، وواحدة مع لبنان في 23 مارس/آذار 1949، وواحدة مع شرق الأردن في 3 ابريل/ نيسان 1949، وواحدة مع سورية في 20 يوليو/ تموز 1949. أما العراق فقد رفض توقيع اتفاقية هدنة على أساس عدم وجود حدود مشتركة بينه وبين إسرائيل.
تركزت النقمة الشعبية في مصر على الملك، واشتد السخط على حاشيته وعلى أحزاب الأقلية أيضاً التي صادرت الحريات وانتهزت فرصة حرب فلسطين وحوادث إرهاب الإخوان المسلمين لترد عليها بإرهاب مماثل لم تشهده مصر من فترة بعيدة، وقد وفرت تلك الأجواء فرصة لانتصار حزب الوفد بانتخابات مجلس النواب التي جرت في 3 يناير/كانون الثاني 1950 حيث حصل على 228 مقعداً من مجموع 319.
مالت حكومة الوفد منذ اللحظة الأولى الى سياسة احتواء الملك بدلاً من التصادم معه، ولكنها وجدت نفسها محاصرة بوعدها الذي قطعته على نفسها بإلغاء معاهدة 1936، فقامت بذلك فعلاً في 8 أكتوبر/ تشرين الأول/ 1951، حين أعلن مصطفى النحاس إلغاء المعاهدة في مجلس النواب، وكان ذلك إيذاناً ببدء الكفاح المسلح ضد قوات الاحتلال البريطانية في منطقة القنال. وهكذا بدأت الحكومة الوفدية مواجهة الاستعمار البريطاني بعد إلغاء المعاهدة، وإصدار تشريعات وقرارات داعمة لذلك التوجه الوطني، ولكنها واصلت كفاحها ضد القوات البريطانية في القناة بواسطة البوليس (الشرطة) أساسا،ً بينما كانت تأمر قوات البوليس بضرب التظاهرات في شوارع القاهرة، وأدى ذلك التناقض الى وجود نوع من الانفصام في طبيعة عمل قوات البوليس في هذه المرحلة الحرجة، والانكى من ذلك تبدت بشكل واضح مفارقة بالغة الغرابة، حين أسهمت قوات البوليس بالعبء الأكبر في معركة الكفاح المسلح بالقناة الى جانب الفدائيين والأهالي، بينما كانت قوات الجيش ساكنة، تمارس حياتها الطبيعية دون مواجهة مع قوات الاحتلال، ودون تحرش من قوات الاحتلال بها.
فرضت حادثة انتخابات نادي الضباط مفاعيلها كبداية للمواجهة العلنية الصريحة بين الملك وبين الضباط الأحرار، وكان قرار الضباط بإجراء الانتخابات التي تمخض عن فوز محمد نجيب بأغلبية ساحقة بمثابة صفعة شديدة لإرادة الملك فاروق. وفي الوقت ذاته عانت قوات الاحتلال البريطاني في مصر معاناة شديدة من الكفاح المسلح حتى كاد الأمر يصل بهم الى حالة اليأس، ولكن مفاجأة حريق القاهرة الذي اندلع في 26 يناير 1952 جاء بالأحكام المعرفية التي قضت على الحركة الثورية الصاعدة، ومنعت نشاط الفدائيين، وأخمدت الجذوة المشتعلة في نفوس الشعب، وعد حريق القاهرة بنظر معظم الباحثين والمراقبين انه خطة تنسيق مشترك بين الملك والبريطانيين، جعلت الوفد يجنح الى طبيعة غير طبيعته، لان قبضته على السلطة ضعفت، وقناعة الناس بقوته تأثرت سواء من الأحداث أو من الحريق، وليس أدل على التنسيق ما بين الملك والبريطانيين من سلسلة الإجراءات التي اتخذت، فبعدما التهمت الحرائق معظم الشوارع وسط القاهرة، أعلنت في الليلة نفسها الأحكام العرفية، وأقيلت وزارة الوفد، وشكلت الوزارة في اليوم التالي برئاسة علي ماهر، "ومن المؤكد أن الذين خططوا لحريق القاهرة وباشروا تنفيذه هم الانجليز"، و ذلك لإيجاد مبرر لضرب حكومة الوفد وإخماد الحركة الوطنية وكفاحها المسلح ضد القاعدة البريطانية في منطقة القنال.
وإزاء تلك التطورات الخطيرة قررت الطليعة الوطنية للجيش المصري تولي زمام الكفاح الوطني بعد ان عجزت القيادات التقليدية عن حسم التناقضات بين قوى الشعب وبين القوى المعادية للشعب، والمتسيدة على زمام الحكم في البلد.
تنظيم الضباط الأحرار
أدت حرب فلسطين ومواجهة الخطر المشترك وإدراك ما يحيط بالجيش والمجتمع من فساد ورشوة وانحلال الى خلق رابطة فكرية مشتركة بين عدد من الضباط ذوي الميول الوطنية النابعة من اتجاهات سياسية مختلفة. هذه النواة خرجت من حرب فلسطين وهي غير مرتبطة بتنظيم موحد، ولم يكن لهم حديث إلا ما تركت الهزيمة في نفوسهم من مأساة. ولعب البكباشي جمال عبد الناصر بشكل شخصي دوراً رئيساً بارزاً في تجميع الضباط من مختلف الاتجاهات السياسية.
شكلت لجنة تأسيسية لذلك التنظيم في أواخر سنة 1949 مؤلفة من خمسة ضباط: جمال عبد الناصر وحسين إبراهيم وخالد محي الدين وكمال الدين حسين وعبد المنعم عبد الرؤوف، وهم ذوو ميول سياسية مختلفة، مع انهم بدأوا جميعاً في ساحة الإخوان المسلمين. ولم يكن أطلق على هذه اللجنة اسم (الضباط الأحرار)، كما انه لم يكتمل الشكل التنظيمي إلا مع مطلع سنة 1950 عندما زاد عدد اللجنة التأسيسية بانضمام كل من: صلاح سالم وعبد اللطيف البغدادي وعبد الحكيم عامر وأنور السادات وجمال سالم، وتم في ذلك الوقت انتخاب جمال عبد الناصر رئيساً للجنة التنفيذية.
صدر أول منشور للتنظيم في فبراير/ شباط 1950 بتوقيع (الضباط الأحرار)، وهنا كان التنظيم يأخذ شكلاً تنظيمياً منفصلاً عن القوى السياسية خارج الجيش، واستمر صدور المنشورات بتوقيع (الضباط الأحرار)، وكانت تصل الضباط عن طريق عناوينهم المنزلية أو في الوحدات العسكرية بالبريد، وأحياناً توزع باليد داخل المعسكرات بطريقة سرية. وعندما بدأ تساؤل الضباط عن البرنامج الذي يرتبطون به، أعدت الأهداف الستة وصدرت في منشور وتم إعدادها من قبل: احمد فؤاد وخالد محي الدين، ووافق عليها جمال عبد الناصر، والأهداف الستة هي:
1. القضاء على الاستعمار وأعوانه من الخونة المصريين
2. القضاء على الإقطاع
3. القضاء على الاحتكار وسيطرة رأس المال على الحكم
4. إقامة عدالة اجتماعية
5. إقامة جيش وطني
6. إقامة حياة ديمقراطية سليمة
التحضير لحركة الانقلاب
عقب حريق القاهرة ونزول الجيش الى الشوارع بناء على أوامر الملك بهدف قمع المظاهرات الشعبية التي كانت تنادي بسقوطه وسقوط النظام الملكي عموماً، وزع الضباط الأحرار منشوراً، أهاب أولاً بالجيش إلا يكون أداة في يد الطاغية لضرب الشعب، كما أوضح ثانياً إن الجيش لن يقف ضد المظاهرات الشعبية ولن يرغم الشعب على قبول نظام لا يقبله، وأكد ثالثاً إن الجيش قد صار ملتحماً مع الشعب في نضاله الوطني الرائع.
ومن الجدير بالإشارة أن الضباط الأحرار، لم تكن لهم خطة عمل، ولم يحددوا تصوراً لحركتهم، ولم يقرروا أسلوب انقضاضهم الى ما قبل 23 يوليو بأيام قليلة. ولكن الظروف كانت تتغير بسرعة شديدة، والمواجهة أصبحت متوقعة بين السراي والضباط الأحرار في أية لحظة، وبعدما علم محمد نجيب خلال لقائه بوزير الدولة محمد هاشم في مساء 18 يوليو/ تموز 1952 وبطريقة عابرة، إن هناك أسماء (12) ضابطاً عرفت السراي انهم يحركون (الضباط الأحرار)، قام بنقل تلك المعلومة وتفاصيل اللقاء الى كل من: جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر، فتقرر في هذا اليوم بالتحديد القيام بحركة عسكرية، ولكن الصورة التي تتم بها كانت مازالت مهتزة وغير واضحة، تتأرجح بين الاغتيالات وبين الاعتقالات، واجتمعت اللجنة القيادية للضباط الأحرار يوم 19 يوليو/ تموز1952، وناقشت الحلول المقترحة فور المقابلة مع محمد نجيب الذي لم يحضر الاجتماع لأنه كان أكثر الضباط عرضه للرقابة وتسليط الضوء عليه، وتراجعت فكرة الاغتيالات ونبتت فكرة الانقلاب، ومع المناقشات تطورت حتى أصبحت حركة واسعة وانقلاباً عسكرياً حقيقياً، فجرى تكليف زكريا محي الدين بوضع خطة الانقلاب.
ليلة 23 يوليو/ تموز
كانت نية الضباط الأحرار القيام بحركة عسكرية سنة 1955 كما صرح فيما بعد جمال عبد الناصر لأحد الصحفيين، ولكن حريق القاهرة أصبح قوة ضاغطة تدفع نحو الإسراع بالحركة. واستقر الرأي في البداية على أن يتم ذلك في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني 1952 حيث يقضي الدستور بضرورة اجتماع البرلمان في هذا الشهر، فإذا حدثت مخالفة دستورية أو تزييف في الانتخابات فأن حركة الجيش عندئذ تكون لحماية الدستور. ومضت الأمور في ذلك السبيل حتى اصدر الملك قراره بحل مجلس إدارة نادي الضباط، وكان هذا في ذاته مؤشراً له دلالته بأن الصدام حتمي، وان التأجيل لن يكون في مصلحة الحركة، وحددت اللجنة القيادية يوم 5 أغسطس/ آب 1952 موعداً للحركة لسببين هما استكمال حضور كتيبة مدافع الماكينة الأولى لتزيد القوة الضاربة للضباط الأحرار، وحتى يكون الضباط قد استلموا مرتباتهم، ولكن معلومات محمد نجيب التي أسلفنا ذكرها، وأنباء أخرى ترددت عن اعتقالات لعدد من الضباط في الإسكندرية ساعدت على تبكير الموعد الى ليلة 21/22 يوليو/ تموز، ولتعذر تجهيز كافة الترتيبات والانتهاء من كل الاتصالات، تقرر تأجيل الموعد يوماً واحداً لتكون الحركة 22/23 يوليو 1952. وقد أعطيت الخطة اسماً كودياً هو (نصر) وتحدد منتصف الليل ساعة الصفر.
إن الثوار كانوا أمام خيار ملزم فأما أن يؤجلوا حركتهم (الثورة)، ويتعرضوا للتصفية التي كانت تتهدهم على اثر اكتشاف أمر تنظيمهم الى أن يمتلكوا من أمرهم منهجاً ونظرية، وإما أن يتقدموا مما يملكون من تنظيم وأفكار لإنقاذ شعب مصر مما كان يعانيه، فأختاروا الثانية.
ومن الأهمية بمكان التذكير بما قام به قادة الحركة من اتصالات مع مندوبي وزارة الخارجية والمخابرات المركزية الأمريكية المهتمين آنذاك بكل ما يصدر من منشورات للضباط الأحرار كاهتمامهم في الاتصال بعدد كبير من السياسيين المصرين لاجتذابهم الى صفها، فقد قرر عبد الناصر في الساعة الثالثة من صباح الانقلاب أن يبعث برسالة الى السفير الأمريكي في القاهرة، يشرح فيها أهداف الضباط الأحرار، وبالفعل أرسلت تلك الرسالة بيد علي صبري عن طريق الملحق الجوي الأمريكي. ويبدو ان الوقت بين تبليغ السفارة الأمريكية وإذاعة البيان كان قصيراً حتى ان مايلز كوبلاند مؤلف (لعبة الأمم) قال: ان الحكومة الأمريكية لم تعلم بوقوع الانقلاب إلا من الصحف الصادرة صباح يوم 23 يوليو 1952، وعلى الصعيد نفسه قام البكباشي عبد المنعم أمين بإبلاغ القائم بأعمال السفارة البريطانية.
ولا بد لنا من إيضاح بعض الجوانب التي أحاطت بتلك الاتصالات، لاسيما بعدما أصبحت مثاراً لأقاويل التوجس والطعن، فقد حاول مايلز كوبلاند في كتابه (لعبة الأمم) الإيحاء بأن جمال عبد الناصر على اتصال بكيرميت روزفلت، رجل المخابرات المركزية ومندوب وزارة الخارجية الأمريكية ورئيس بعثتها الى مصر بعد حريق القاهرة، ولكن في حقيقة الأمر لا يوجد دليل واحد على ذلك الاتصال قبل الشروع بالحركة، والمقطوع به والأكيد أن الأمريكيين قد وجدوا في النشاط السري لتنظيم الضباط الأحرار بعضاً ما يحقق لهم أهدافهم في المنطقة، ومع ذلك كله لم يستطيعوا أبداً أن يكونوا مسيطرين عليه.
لقد حققت الخطة أهدافها في القاهرة بعد سويعات من انطلاقها باكتمال مظاهر الحركة ووصول القائد الجديد الى مركز قيادته، واحتلت الوحدات مراكزها التي تحاصر بها المنطقة العسكرية وتعزلها تماماًُ عن القاهرة، وأصبحت الإذاعة بشطريها (المبنى ومحطات الإرسال) تحت سيطرة الحركة. وبدأت القيادة الاتصال بالمناطق الخارجية في القنال والعريش وبقية المدن. ووصل أنور السادات الى مبنى الإذاعة في الساعة السابعة إلا ربعاً صباحاً لغرض إذاعة البيان الأول، وفوجئ المواطنون في الساعة السابعة والنصف من صباح الأربعاء 23 يوليو/ تموز، ببيان تذيعه الإذاعة المصرية باسم القائد العام للقوات المسلحة، يعلن انتفاضة الجيش المصري على الطغيان وعلى الفساد الذي استشرى في البلاد.
لقد كان لإذاعة البيان الأول للحركة وقعاً مدوياً على معظم أفراد الشعب المصري، وعد ذلك البيان من قبل بعض الباحثين أنه لعب دوراً فاصلاً في تحديد الموقف لصالح الضباط الأحرار، مع كون كافة الاحتمالات واردة، لان ضيق الوقت والإسراع في وضع الخطة كان سبباً في عدم دراسة كل التفاصيل ووضع الإجابات الحاسمة على كافة التساؤلات. فلم تضع الخطة حلولاً لأية مواقف اعتراضية مفاجئة فيما إذا صدرت من القوات البريطانية في القنال، وتركت معالجتها لطبيعة الموقف وللمبادرة الشخصية.
ووصف استقبال الشعب المصري لبيان الثورة: "والحق ان أفراد الشعب المصري في مختلف مدن القطر -بنادره وقراه، قد استقبلوا (الحركة المباركة) –كما كان يطلق على الثورة وقتئذ- بالفرح والبشر والارتياح، وذلك منذ ان استمعوا الى بيانها الأول. وشعر الشعب ان (الحركة) ليست لحساب الجيش فقط، بل ولحسابه أيضاً، فطفقوا يعلنون عن تأييدها بطرق شتى، وانفجرت موجة التأييد الشعبي للثورة تكتسح كل شيء وتمهد للعمل القادم العظيم".
أسباب الحركة الانقلابية (الثورة)
وعلى ضوء ما تقدم يمكننا الإشارة الى أن أسباب قيام ثورة 23 يوليو 1952، جاءت دليلاً حاسماً على فشل الحياة الديمقراطية الليبرالية في المرحلة السابقة، ويكاد يجمع كل أساتذة القانون العام في مصر، بأن فشل الديمقراطية الليبرالية في عهد ما قبل الثورة كان أحد أسباب قيامها، وان اختلفوا في تحديد أسباب الفشل ذاتها. واعترف محمد حسنين هيكل بأن عبد الناصر قال للأمريكيين في أحد لقاءاته: "إن واحداً من أسباب الثورة: ضعف جيش مصر، ان هذا الجيش خاض معركة خاسرة في فلسطين سنة 1948 بذخيرة فاسدة، اشتريت بأسعار خيالية من أوربا، وقتلت من الجنود المصريين أكثر مما قتلت من جنود العدو"، هذا فضلاً عن بقية الأسباب التي تم التطرق اليها فيما سبق، والمتعلقة بفشل جلاء القوات البريطانية عن مصر وفشل محاولة تحقيق ذلك باللجوء الى مجلس الأمن، يضاف الى ذلك كله الأسباب الأخرى المتصلة بسياسة الاستعمار الساعية الى فصل السودان عن مصر، وتأثير العامل الاقتصادي واستحكام الغلاء الى حد جعل الحياة شديدة الصعوبة بالنسبة للأغلبية الساحقة.
القضية الوطنية وجلاء القوات البريطانية
ما ان نجحت حركة 23 يوليو/ تموز 1952 في وصول الضباط الأحرار الى السلطة وتحمل مسئولية الحكم، حتى فرضت القضية الوطنية نفسها، وأصبح على الحكام الجدد ان يجدوا حلاً لها بعد ان تعثرت طويلاً في طريق المفاوضات، وبعد ان كانت سوريا ولبنان قد جلت عنها القوات البريطانية والفرنسية فعلاً سنة 1946، علماً ان القضية الوطنية في ذلك الوقت لم تكن تعني تحرير مصر وحدها وجلاء القوات البريطانية من على أرضها فقط، ولكنها كانت تشمل قضية السودان أيضاً.
لقد تم التوصل الى توقيع اتفاقية مع البريطانيين حول السودان في 12 فبراير/ شباط 1953، وانتهت مشكلة السودان بأمل كبير في الاتحاد مع مصر، ولكن ظهور الخلافات –بين محمد نجيب ومجلس قيادة الثورة- فتح ثغرة مناسبة لأعداء الاتحاد مع مصر استطاعوا أن ينفذوا منها، فلم تكتمل وجهة الوحدة، وسحبت مصر وبريطانيا في نهاية صراع الإرادات جيوشهما من السودان، وفي المحصلة النهائية، أعلن قيام الجمهورية السودانية في 19 ديسمبر/ كانون الأول 1955، وشكل مجلس قيادة لرئاسة الدولة، فأصبح السودان مستقلاً قبل مصر ذاتها، وغير مرتبط بمعاهدات أو أحلاف عسكرية، ولا توجد في أراضيه أي قواعد أجنبية.
أما في الشأن المصري، فقد بدأت المباحثات مع البريطانيين في 27 ابريل/ نيسان 1953، وكان الجانب البريطاني يستهدف بقاء قناة السويس قاعدة لقواته وعملياته العسكرية في المستقبل، فسعى الى ربط مصر بحلف دفاعي للشرق الأوسط، وكانت هذه الاتجاهات مرفوضة تماماً من الجانب المصري. وتوتر الموقف بعد تعثر المفاوضات، وما ان أعلن جمال عبد الناصر بيان توقف المفاوضات حتى بدأ الكفاح المسلح بالقناة، وشهد شهرا مايو ويونيو/ أيار وحزيران 1953 تحركاً واسع النطاق للفدائيين، وتحول الكفاح المسلح بعد حركة الجيش الى عمل تنظيمي منضبط في يد ضباط المخابرات المصريين الذين انبثوا في مدن القنال. واستؤنفت المفاوضات في 11 يوليو/تموز 1954، ولم تستغرق وقتاً طويلاً، حتى انتهت في 27 يوليو/ تموز من السنة نفسها، حيث وقعت اتفاقية الجلاء بالأحرف الأولى في دار مجلس الوزراء، وتأكد بعد ذلك ان السرعة في توقيع الاتفاقية كان نتيجة وساطة أمريكية، وقد نصت الاتفاقية على انسحاب القوات البريطانية خلال عشرين شهراً من التوقيع النهائي، وبذلك أنهت معاهدة سنة 1936 وكافة ارتباطاتها، معتبرة قناة السويس جزءاً من مصر تكفل حرية الملاحة فيها اتفاقية الاستانة المعقودة في 29 أكتوبر/تشرين الأول 1888، ونصت الاتفاقية أيضاً على بقاء أجزاء من القاعدة صالحة ومعدة للاستخدام تعود اليها القوات البريطانية في حالة إذا هاجمت دولة من دول معاهدة الدفاع المشترك لجامعة الدول العربية أو تركيا أيضاً، وفي حالة التهديد بالهجوم يجري التشاور فوراً بين مصر وبريطانيا.
ونظر البعض من الباحثين الى اتفاقية الجلاء على انها حققت أمنية مصر التي كانت تصبو اليها منذ زمن طويل، بيد ان فئات كبيرة من الجماهير اعتبرت الاتفاقية اقل من طموحها وأكثر تراجعاً من إرادتها، في حين عد جمال عبد الناصر انجازها بمثابة: "وضع الهدف الأكبر من أهداف الثورة منذ هذه اللحظة (لحظة توقيعها) موضع التنفيذ الفعلي".
وبين توقيع الاتفاقية بالحروف الأولى وتوقيعها النهائي في 19 أكتوبر/ تشرين الأول 1954، تبلورت المعارضة للاتفاقية عموماً ولجمال عبد الناصر بصفة خاصة، وظهرت بوادر ذلك في صورة عنف، تجلى بنسف كوبري أبو سلطان بمنطقة القنال في 2 أغسطس/ آب 1954، وركب الاخوان المسلمون موجة الرفض الشعبي للاتفاقية، وبدأت صفحة مواجهة جديدة بينهم وبين عبد الناصر، ولم يكد يمض أسبوع واحد على توقيع الاتفاقية حتى تعرض جمال عبد الناصر لمحاولة اغتيال بإطلاق الرصاص عليه أثناء خطابه في ميدان المنشية بالإسكندرية. واستمر الجلاء عن المعسكرات البريطانية واحداً بعد الأخر حتى تم جلاء البريطانيين عن أخر معقل كانوا يحتلونه في بور سعيد وهو مبنى البحرية الذي تسلمه الجيش المصري يوم 13 يوليو 1956. وفي 18 يوليو/ تموز بمناسبة الذكرى الثالثة لإعلان الجمهورية في مصر، رفع عبد الناصر العلم المصري على مبنى البحرية في بور سعيد، واعتبر هذا التاريخ (عيد الجلاء) منذ ذلك الوقت. وبذلك تحررت مصر والسودان من الوجود الاستعماري قبل ان تمضي أربع سنوات على قيام ثورة 23 يوليو، وخرج الاحتلال البريطاني بعد ان مكث في مصر (74) عاماً. ومن الجدير بالذكر ان حكومة الثورة اغتنمت فرصة العدوان الثلاثي 1956 فأعلنت في أول يناير/ كانون الثاني عام 1957 إلغاء تلك الاتفاقية.
الحياة الدستورية والأحزاب السياسية في عهد الثورة
أبقت الثورة على دستور سنة 1923 في أيامها الأولى، ومفتتح قراراتها أنها استبدلت بملك بالغ فاسد ملكاً طفلاً بريئاً تحت الوصاية، إذ اجبر الملك فاروق على التنازل عن العرش لولي عهده الأمير احمد فؤاد، وكانت موافقته أخر وثيقة رسمية يوقعها، وهي الأمر الملكي رقم 65 لسنة 1952 المصادر في 26 يوليو/ تموز.
إن ثوار يوليو لم ينكروا قط انهم ينتهجون التجربة والخطأ وصولاً الى الصواب من خلال العمل والممارسة، وان ثورة يوليو قامت ونجحت في الاستيلاء على السلطة، ومن ثم استمرت عشر سنوات على الأقل لا تعرف – على وجه التحديد العلمي- كيف تحقق مبادئها، فجربت أساليب مختلفة: تختار فتمارس فتخطئ فتصحح فتصيب، أو تخطيء مرة أخرى فتصحح ... وهكذا.
ولا مراء من أن الإجراءات في مطلع عهد الثورة أدت الى إنهاء طبيعة النظام القديم، وعملت منذ اللحظات الأولى على تولية الجيش أو (مجلس قيادة الثورة) شؤون السلطة، ولا يستقيم القول بأن النية كانت مبيتة منذ اللحظة الأولى على إقامة الدكتاتورية العسكرية، فأن نقص التخطيط والظروف المواتية هي التي مهدت الطريق الى ذلك، كما انه لا يصح القول أيضاً بأن حركة الجيش كانت حريصة على الديمقراطية، فانه رغم وجود بعض الأصوات التي دافعت عنها داخل المجلس وفي صفوف الجيش، إلا ان إغراء السلطة وضعف المقاومة كان حرياً بأن تنتهي الى هذه النتيجة.
أسقطت حركة الجيش دستور سنة 1923 في10 ديسمبر/ كانون الأول 1952، فيما أعلنت بعد ستة أشهر تقريباً في 18 يوليو /تموز 1953، سقوط الملكية وقيام الجمهورية، وأصدرت إعلاناً في 26 يناير/ كانون الثاني 1953، يقضي بحل كافة الأحزاب السياسية، وترتب على ذلك الإعلان صدور قانون رقم 37 لسنة 1953 يحظر النشاط الحزبي وتكوين أحزاب سياسية جديدة.
لقد كان واضحاً ان دستور سنة 1923 لم يعد يتناسب مع الطبقة المتوسطة التي وثبت الى السلطة، ولكن رغم ما فيه من صلاحيات للملك تعطل أثره إلا انه كان ضمانة وركيزة لحرية الجماهير السياسية.
وتابعت الثورة إجراءاتها في شؤون تنظيم الحياة السياسية، وهي في واقع الأمر كانت تستبطن تدعيم سلطتها وموقفها في صراع القوى السياسية المصرية، فأصدرت مرسوماً بتشكيل لجنة من خمسين عضواً لكي تقوم بإعداد مشروع دستور يتفق مع أهدافها في 13 يناير/ كانون الثاني 1953 مثلما أصدرت إعلاناً في 16 من الشهر نفسه حددت الفترة الانتقالية بمدة ثلاث سنوات، وقامت في 10 فبراير/ شباط 1953 بإصدار إعلان دستوري يبين نظام الحكم خلال الفترة الانتقالية، وقد عهد الى مجلس قيادة الثورة القيام بأعمال السيادة العليا، وعهد بالسلطة التشريعية الى مجلس الوزراء، وعهد بالسلطة التنفيذية الى مجلس الوزراء والوزراء كل فيما يخصه، وعهد بالمراقبة والمتابعة الى مؤتمر يتألف من مجلس الوزراء ومجلس قيادة الثورة مجتمعين.
إن حركة الجيش منذ لحظتها الأولى في ليلة 23 يوليو لم تكن تتحرك بخطة واحدة معلومة، وإستراتيجية متكاملة، وإنما كانت تتصرف تبعاً للمواقف الطارئة والظروف المحيطة، بطريقة تكتيكية ماهرة، يصعب منها التنبؤ –في لحظتها- عن الاتجاه الاستراتيجي لها، وليس أدل على ذلك من القرار الذي صدر في 5 مارس/ آذار 1954 بخصوص اتخاذ إجراءات عقد جمعية تأسيسية يتم انتخابها عن طريق الاقتراع العام المباشر على ان تجتمع خلال شهر يوليو/ تموز 1954، ولكن في 29 مارس/ آذار 1954، صدر قرار بأرجاء تنفيذه حتى نهاية الفترة الانتقالية، وقضى هذا القرار أيضا بتشكيل مجلس وطني استشاري يراعى في تمثيله الطوائف والهيئات والمناطق المختلفة، وعد مثل هذا القرار في نظر المختصين: كأنه مستخرج من عصور ما قبل الديمقراطية، يوم ان كان الملوك يختارون ممثلين الطوائف والمناطق في مجالس استشارية تكون مهمتها مقصورة على إبداء الرأي والنصيحة بدون التزام أو إلزام.
قامت لجنة الخمسين التي تشكلت بمرسوم 13 يناير/ كانون الثاني 1953 كما أوضحنا ذلك سابقاً، بإعداد مشروع الدستور، وقدمته فعلاً الى مجلس الوزراء يوم 17 يناير/ كانون الثاني 1955، ولكن قيادة الثورة لم تقبله بحجة ان نظام الحكم فيه نيابي أكثر مما يجب، ووضعت بدلاً منه دستوراً أعلنته في 16 يناير 1956، وهو أخر يوم في الفترة الانتقالية –التاريخ الذي كان محدداً لجلاء قوات الاحتلال البريطاني، ولم يكن دستور سنة 1956 أخر المواقف، فهو ذاته قد ألغي قبل مرور عامين عليه في 5 مارس /آذار 1958 بمناسبة الوحدة بين مصر وسورية، ثم عاد ذاته بعد أربعة أعوام تقريباً في 27 سبتمبر/ أيلول 1962 بسبب الانفصال، ثم ألغي مرة أخرى بعد عامين اثر صدور دستور جديد مؤقت في 23 مارس/آذار 1964.
الحزب الواحد في حياة مصر السياسية
اعتقد مجلس قيادة الثورة انه قادر على ملء الفراغ السياسي الناتج عن حل الأحزاب ووقف نشاطها بتكوين ما عرف بـ(هيئة التحرير) وذلك بعد مرور ستة أشهر على الحركة، وافتتح مقراً لها في ثكنات الحرس الملكي (سابقاً) بميدان عابدين، لكنها لم تستطع ان تضم الى صفوفها أحداً من الذين مارسوا العمل السياسي من قبل عدا قلة محدودة، كما ان قبضة الجيش فيها واضحة، وأشار جمال عبد الناصر في حديثه الى صحيفة الأهرام في 17 يونيو/ حزيران 1953 الى ان هيئة التحرير ليست حزبا سياسياً، ولم تنشأ لتكوين حزب سياسي يجر المغانم على الأعضاء أو يستهدف شهرة الحكم والسلطان، منوهاً الى ان السبب الرئيس في تأسيسها يرجع الى الرغبة في إيجاد أداة لتنظيم قوى الشعب. وتجدر الإشارة هنا الى ان برنامج هيئة التحرير كان بلا كلمة واحدة عن القومية العربية أو الاشتراكية. ويبدو أنها لم تحقق مرامي قادة الثورة، فأعلن عن تشكيل الاتحاد القومي كتنظيم جديد في 28 مايو/ أيار 1957 على أساس أنه ليس حزباً مثل ما كانت هيئة التحرير، وجاء في أهدافه ان الاتحاد القومي ليس حكومة، ولكنه تنظيماً يضم الحاكمين والشعب ويتيح الفرصة الحقيقية لتعاونهم على معالجة المشاكل المحلية والقضايا العامة في ظل المجتمع الاشتراكي الديمقراطي التعاوني وهو السبيل الى الديمقراطية السليمة التي تشعر الشعب انه يحكم نفسه بنفسه.
وتبعاً لمواد الدستور الجديد وقانون الانتخاب الذي صدر في 3 مارس/ آذار 1956، جرى تأليف مجلس الأمة من 350 عضواً، فأضفى ذلك شرعية ديمقراطية على نظام الحكم، ولكنه ظل في مضمونه عسكرياً يقبض العسكريون فيه على زمام السلطة التي أصبحت تتركز في يد جمال عبد الناصر، رئيس الجمهورية الذي حصل في انتخابات 25 يونيو/ حزيران 1956على نسبة 99.9%. فقد كسبت الثورة تأييد الجماهير بلا ضغط يوماً بعد يوم من خطواتها الوطنية، حتى ارتبطت مع الشعب تماماً في مواجهة العدوان الثلاثي سنة 1956، وبذلك أصبحت على حد قول المؤرخ احمد حمروش تستحق ان يطلق عليها اسم (الثورة) لأنها تحولت الى قيادة حقيقة مناضلة عن أهدافهم.
ومن ثم ولد لاحقاً الاتحاد الاشتراكي من رحم الاتحاد القومي، وذلك في المؤتمر الوطني للقوى الشعبية الذي عقدت جلسته الأولى في 21 مايو/ أيار 1962، وتمخض ذلك عن مناقشات (ميثاق العمل الوطني) الذي قدمه جمال عبد الناصر الى المؤتمر. وأصبح الاتحاد الاشتراكي العربي بديل الاتحاد القومي تنظيماً سياسياً، وفتحت الأبواب لدخول التنظيم في أول يناير/ كانون الثاني 1963، وقد بلغ عدد الذين قيدوا أنفسهم خلال 20 يوماً نحو 4.885.932 شخصاً. فجاء تكوين التنظيم من مركز السلطة ودفع الجماهير الى الانضمام اليه بالملايين دون تفرقة بين المقتنعين بالتغير الاجتماعي وأصحاب المصلحة الحقيقية فيه، وبين المنضمين اليه تملقاً وتقرباً من مراكز النفوذ، وكما كان الاتحاد القومي خاضعاً لنفوذ العسكريين كان الاتحاد الاشتراكي كذلك أيضاً، مثل ما هو واضح في تشكيل الأمانة (9 ضباط، 3 مدنيين)، ولكن الفارق مع ذلك كان موجوداً بين الاتحاد القومي والاتحاد الاشتراكي من حيث التنظيم الهرمي والصلات التنظيمية الثابتة، فقد خلق الاتحاد الاشتراكي حداً من الانضباط التنظيمي وصورة هيكل محدود لبناء تنظيمي، وأضاف ميثاق العمل الوطني للتنظيم لكونه مرجع يرجع اليه المسئولون ويلتزم به أعضاء القيادات المختلفة، وعدت هذه المحاولة الجادة لوضع وثيقة فكرية وتكوين تنظيم جماهيري، خطوة ايجابية هامة، جوهرها الرئيس استناد عبد الناصر في الوثيقة هو تحديد القوى الاجتماعية التي يضمها تحالف واحد في مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية.
قانون الإصلاح الزراعي
إن المشروع الاجتماعي لثورة 23 يوليو قد بدأت بذوره الجنينية في الأسابيع الأولى للثورة، فخلال الشهرين الأولين أصدرت إجراءين مهمين، الأول: قانون الإصلاح الزراعي، والثاني : إلغاء الألقاب المدنية، وحاز الإجراء الأول على الاهتمام الأكبر للمراقبين والمحللين وقتها وفيما بعد أيضاً، وقد كان ولا يزال الاهتمام بقانون الإصلاح الزراعي اهتماماً واجباً لأنه مس عصب المسألة الاجتماعية في مصر، أما الإجراء الثاني، فلم يحظ بكثير من الاهتمام رغم أهميته الرمزية حضارياً وسياسياً. وجاء الإصلاح الزراعي إدراكاً من الثورة منذ يومها الأول أن مسألة الأرض تمثل بحق مفتاح أي تحول اجتماعي حقيقي في الريف بل في مصر كلها.
وإذا ما نظرنا الى الجانب الديمقراطي من قانون الإصلاح الزراعي فان من الممكن اعتباره بمثابة قانون تحرير الفلاحين من القهر الاقتصادي الذي مارسه الملاك، وتحطيم علاقة التبعية التي تربطهم بسادتهم الأقدمين. ومنذ صدور قانون الإصلاح الزراعي الأول خلال عهد الثورة رقم 178 لسنة 1952 يوم 9 سبتمبر/ أيلول 1952 لم تتوقف دراسته ونقده والإضافة عليه وتعديله.
لقد حدد القانون الأول سنة 1952 الحد الأقصى للملكية بمئتي فدان للأسرة، وخفض القانون الثاني سنة 1961 الحد الأقصى الى مائة فدان، ومن ثم خفضها القانون الثالث سنة 1968 الى خمسين فداناً، أما ما زاد عن الحد الأقصى في كل مرة كانت تجري مصادرته وتوزيعه على المعدمين من الفلاحين الذين لم يكونوا يملكون شيئاً. ولم يقتصر الإصلاح الزراعي على تحديد الملكية بل شمل تنظيم العلاقة بين المالك والمستأجر، وهذا الإجراء لا يقل أهمية في مضاعفاته الاقتصادية- الاجتماعية عن إجراءات تحديد الملكية. وأعادت قوانين الإصلاح الزراعي التوازن التوزيعي للثروة الزراعية لمصلحة صغار الفلاحين والمعدومين منهم بشكل لم يسبق له مثيل في تاريخ مصر الحديث، ولكن الثورة كانت تدرك ان ذلك وحده ليس كافيا مادامت المساحة الكلية للأرض الزراعية في مصر ثابتة، لذلك دأبت منذ البداية على توسيع الرقعة الزراعية باستصلاح مزيد من الأراضي الصحراوية، وتوزيعها على من لا يملك من الفلاحين، وكان بناء السد العالي وتوفير مزيد من مياه الري سبيل الثورة الى ذلك. وهكذا حققت مصر إضافة ما يقرب مليون فدان في السنوات العشرين التالية الى رقعة مصر الزراعية.
كانت إجراءات الإصلاح الزراعي بمقوماتها الثلاث- تحديد الملكية وتنظيم العلاقة بين المالك والمستأجر واستصلاح الأراضي- عاملاً حاسماً في تغيير الخريطة الاجتماعية في الريف المصري. فقد قلصت القاعدة الاقتصادية لكبار الملاك، وبالتالي أضعفت قوتهم السياسية وسطوتهم الاجتماعية في الريف، كما وسعت من ناحية أخرى قاعدة صغار ومتوسطي الملاك، وبتعبير آخر ان الهبوط الذي أصاب (11000) من الملاكين، وهم من الطبقة المسيطرة في الريف نتج عنه صعود نحو مليوني فلاح (بين مستفيد من توزيع الأراضي المصادرة، ومستفيد من قوانين تنظيم العلاقة بين المالك والمستأجر.
يعد قانون الإصلاح الزراعي من اخطر القرارات التي أصدرتها الثورة في محاولة لتحقيق اكبر قدر من العدالة الاجتماعية في الريف المصري، ومع ذلك انه لم يخل من بعض القصور والنواقص الذي شاب تنفيذ القانون في مراحله المختلفة، ومهما يكن من أمر فأن ذلك لا يقلل بأي حال من الأحوال من أهميته على بالرغم من أن من استفاد به من سكان الريف سنة 1970 لا يتعدى 9%، وان ما وزع من الأراضي لا يتجاوز 13% من المساحة، كما أن للإصلاح الزراعي اثر على دخول الأسر المنتفعة بالقانون، فقد تبين أن دخولهم زادت نسبة 5% خلال الستينيات مقارنة بما كانت عليه قبل عام 1952، ويرجع ذلك الى زيادة الغلة الغذائية وانخفاض تكاليف الإنتاج، لاسيما بعد أن خفضت الحكومة الإقساط المستحقة من ثمن الأراضي وأطالت فترة السداد، وخفضت نسبة الفائدة وأعفتهم من ضريبة الأراضي، إلا أن الزيادة المتحققة في الدخل الفردي قد امتصها الارتفاع في تكاليف المعيشة، مما جعل الدخل الصافي للمنتفع اقل من الدخل الصافي للمستأجر وذلك بسبب تنظيم العلاقة بين المالك والمستأجر.
تناولت كثير من الدراسات قانون الإصلاح الزراعي، وبلغ التحيز ضده الى حد إسناد كثير من متاعب الإنتاج الزراعي اليه، مثلما بلغ التحيز اليه حد القول بأنه قانون اشتراكي، والواقع انه لا يستمد أهميته من علاقته بالاقتصاد لأنه لم يصدر من اجل زيادة الإنتاج، ولا من علاقته بالنظام الاشتراكي لأنه لم يغير من علاقات الإنتاج، ولكنه بلا أدنى شك كان القانون الديمقراطي الأول في تاريخ مصر الحديث.
الخاتمة
لقد سعى جمال عبد الناصر بكل ما يملك من قوة وجهد نحو توحيد البلدان العربية، وتنبيه الوعي القومي العربي بحيث أصبح اسمه رمزاً للقومية العربية وعنواناً لها، وعمل على توحيد كلمة العرب ليكون لهم مركزاً مرموقاً في العالم، وليستطيعوا القيام بدورهم في بناء صرح السلام العالمي، وتحقيق التوازن العسكري، واستلزمت تلك السياسة، خاصة أمام الخطر الإسرائيلي المتزايد، عملاً ايجابياً في بناء الاقتصاد القومي، وطموحاً مشروعاً للحصول على السلاح.
وكانت لمشاركة عبد الناصر في مؤتمر باندونج (تأسيس حركة عدم الانحياز) توجيه سياسة مصر باتجاه تعزيز العلاقة مع المعسكر الاشتراكي التي توجت بإبرام اتفاقيات الأسلحة وإبداء المعونة لمصر في إنشاء السد العالي. وهكذا نهضت ثورة 23 يوليو بدور وطني وقومي تحرري، فضلاً عما قدمته من دور تقدمي على الصعيد الدولي، حين تبنت مصر سياسة الحياد الايجابي وعدم الانحياز ومطالبتها بتخفيف حدة التوتر الدولي وتصفية الاستعمار، واحترام حقوق الدول الصغيرة، وتنفيذ قرارات الأمم المتحدة، واستنكار سياسة التكتلات الدولية، وما قد تؤدي اليه من عواقب سياسية وخيمة ومن تهديد للسلام العالمي.
كل تلك المواقف جعلت الغرب (الاستعماري والاحتكاري) يقف موقفاً حاسماً من مصر، تجسد فعلياً بعدم التعاون معها، خاصة بعد ان وضحت مناهضتها لحلف بغداد، ودورها الكبير في يقظة القومية العربية ووحدة النضال العربي، وكان من أسرع النتائج لهذه اليقظة وهذا الدور قيام وحدة الشعبين المصري والسوري في أول وحدة عربية شعبية حرة في أول فبراير/ شباط 1958 بين إقليمين من أقاليم الوطن العربي، وان لم تستمر هذه الوحدة طويلاً لكنها أكدت أهمية مدى ما تمثله الوحدة العربية في مواجهة الاستعمار الغربي والصهيونية العالمية.
وختاماً لا مراء على أن ثورة 23 يوليو 1952 حققت منجزات عظيمة على صعيد حياة مصر الداخلية وسياستها الخارجية. بالإضافة الى منجزاتها على الصعيد القومي العربي والإقليمي والدولي، ولكن هذا لا يعفينا من الإشارة الى أنها أخفقت في مناح عديدة، ولا من القول بأنها أخطأت أخطاءاً كبيرة أيضاً. وفي كل الأحوال أن تأثيرها امتد الى ابعد من حدود زمنها، وأطول من سني عمرها، مثلما اتسعت في حدود المكان الى ابعد من موطنها، فشعت في كل أرجاء الوطن العربي، والاهم أن وهجها ما زال في عقول كثير من العرب.


المصادر والمراجع

1. أحمد حمروش، قصة ثورة 23 يوليو، ج1، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1974
ــــــــــــــــــ، ج2، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1975
2. أمين هويدي، حروب عبد الناصر، ط1، بيروت، دار الطليعة، 1977
3. سعد الدين إبراهيم (د.)، ثورة يوليو والمسألة الاجتماعية، بحث ضمن كتاب "23 يوليو.. قضايا الحاضر وتحديات المستقبل"، ط1، دار المستقبل العربي، القاهرة، 1987
4. سيد حامد النساج (د.)، حركة الفكر التقدمي في مصر، مجلة الكاتب المصرية، العدد: 172، يوليو 1972
5. عاصم الدسوقي (د.)، كبار ملاك الأراضي الزراعية ودورهم في المجتمع المصري، ط1، القاهرة، دار الثقافة الجديدة، 1975
6. عزيز صدقي (د.)، ثورة يوليو وبناء الصناعة المستقلة في مصر، بحث ضمن كتاب "ثورة 23 يوليو.. قضايا الحاضر وتحديات المستقبل"، ط1، دار المستقبل العربي، القاهرة، 1987
7. عصمت سيف الدولة (د.)، الأحزاب ومشكلة الديمقراطية في مصر، بيروت، دار الميسرة، 1977
8. عمر عبد العزيز(د.)، دراسات في تاريخ العرب الحديث والمعاصر، بيروت، دار النهضة العربية، 1975
9. مايلز كوبلاند، لعبة الأمم، ط1، تعريب: مروان خير، بيروت، انترناشنال سنتر، ص95؛ محمد حسنين هيكل، عبد الناصر والعالم، بيروت، دار النهار للنشر، 1972
10. مصطفى الجبلي (د.)، ثورة يوليو والتنمية الزراعية، بحث ضمن كتاب "ثورة 23 يوليو.. قضايا الحاضر وتحديات المستقبل"، ط1، دار المستقبل العربي، القاهرة،1987


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

هذه هي آخر منتجات قمت بمشاهدتها Souqموقع الويب الخاص بـ:
في الأغلب، انتهى الأمر بالأشخاص الذين قاموا باستعراض هذه المنتجات إلى اختيار المنتجات التالية:

مــدونات ناصــر شــلبى

الـموضــوعـات الأكـثـر زيـارة