أولاً: تأسيسه وبناؤه:
أقسام الأزهر:
ثانياً: نظام التعليم فيه:
مجلس الأزهر الأعلى:
رابعاً: الأزهر تحت الاحتلال الفرنسي:
رابعاً: الأزهر تحت الاحتلال الفرنسي: 2
رابعاً: الأزهر تحت الاحتلال الفرنسي: 3
أولاً: تأسيسه وبناؤه:
لعلّ خير ما خلفه الفاطميون لمصر وللعالم الإسلامي ذلك المسجد الأزهر العتيق، فقد كان بيتاً من بيوت اللَّه يعمر النفوس بالإيمان ويهديها سواء السبيل، ثم نهض إلى جانب هذا برسالة أخرى حمل بها عبء المعارف الإسلامية بعد سقوط بغداد، وصار المثابة الأخيرة التي يؤمها طلاب العلم من جميع الأقطار.
وسنقف أمام محطة تاريخية هامة يتجلى بها دور الأزهر في قيادة الأمة وصناعة العلماء وتربية المجاهدين... نعني بذلك دور الأزهر في مواجهة الغزو الفرنسي لمصر.
أولاً: تأسيسه وبناؤه:
هو مسجد وجامعة في القاهرة في مصر، بناه جوهر الكاتب
الصقلي (إلياس الصقلي) قائد جند أبي تميم معد بعد عام من فتح الفاطميين لمصر، وبعد أن أنشأوا قاعدة ملكهم الجديدة مباشرة (القاهرة جمادى الأولى عام 259 رمضان 361). وفتح للصلاة في شهر رمضان عام 361هـ (حزيران - تموز سنة 972) وبني المسجد في الجنوب الشرقي من المدينة على مقربة من القصر الكبير الذي كان موجوداً حينذاك بين حي الديلم في الشمال وحي الترك في الجنوب. وكتب جوهر بدائر القبة نقشاً تاريخه عام 360هـ. وتجد نصّه في المقريزي (الخطط، ج2، ص273، س24-26) . وقد اختفي النقش منذ ذلك التاريخ وزاد كثير من ولاة الفاطميين في بناء المسجد وحبسوا عليه الأوقاف، نضرب مثلاً لذلك العزيز نزار (365-386هـ ـ 976-996م) فقد جعله معهداً علمياً وأنشأ به ملجأً للفقراء يسع 35 شخصاً.
ويروى أن البناء الأول للمسجد كان به صورة طيور منقوشة على رأس ثلاثة أعمدة حتى لا يسكنه طير ولا يفرّخ به. ولما جاء الحاكم بأمر اللَّه (386-411هـ ـ 996-1020م) زاد في بناء المسجد وحبس الأوقاف عليه وعلى غيره من المساجد. وتجد ثبتاً بهذه الأوقاف فيما ذكره المقريزي (ج2، ص273 وما بعدها) من أخبار عام 400هـ. وفي عام 519هـ (1125م) أنشأ العامر فيه محراباً وحلاّه بالنقوش الخشبيّة. وما زالت هذه النقوش محفوظة في دار الاثار العربية بالقاهرة.
وإنشاء الفاطميين لهذا المسجد يفسّر الاسم الذي أطلق عليه، فقد قيل إنّ الأزهر إشارة إلى السيدة الزهراء وهو لقب فاطمة بنت الرسول محمد (ص) التي سميّت باسمها أيضاً مقصورة في المسجد (المقريزي، ج2، ص275، س16). وقد زاد المستنصر والحافظ في بناء المسجد شيئاً قليلاً.
وتغيّر الحال في عهد الأيوبيين، فمنع صلاح الدين الخطبة من الجامع وقطع عنه كثيراً مما أوقفه عليه الحاكم. وانقضى نحو قرن من الزمان قبل أن يستعيد الجامع الأزهر عطف الولاة ووجوه البلاد عليه، ولما جاء الملك الظاهر بيبرس زاد في بنائه وشجّع التعليم فيه وأعاد الخطبة إليه في عام 665هـ = 1266-1267م.
وحذا حذوه كثير من الأمراء. ومنذ ذلك العهد ذاع صيت المسجد وأصبح معهداً علمياً يؤمه الناس من كل فجّ، ولقي الأزهر من عناية البلاد الشيء الكثير. وزاد في مجده أن غزوات المغول في المشرق قضت على معاهد العلم هناك، وأن الإسلام أصابه في المغرب من التفكك والانحلال ما أدى إلى دمار مدارسه الزاهرة. وفي عام 702هـ (1302-1303م) خرّب زلزال المسجد، فتولّى عمارته الأمير سهاد ثم جددت عمارة الجامع في عام 725هـ (1325م) على يد محتسب القاهرة محمد بن حسن الأسعردي (من سعرد في إرمينيه). وحوالى ذلك العهد بنى الأميران طيبرس وأقبغا عبد الواحد مدارس بالقرب من الأزهر، إذ بنى طيبرس المدرسة الطيبرسنية عام 709هـ (1309-1310م) وبنى أقبغا عبد الواحد المدرسة الأقبغاوية عام 740هـ (1340م) وقد ألحقت هاتان المدرستان بالأزهر فيما بعد. وقد جدّد الطواشي بشير الجامدار الناصري بناء المسجد وزاد فيه حوالى عام 761هـ (1360م) ورتب فيه مصحفاً، وجعل له قارئاً، ورتّب للفقراء طعاماً يطبخ كل يوم، ورتّب فيه درساً للفقهاء من الحنفية، وجدد عمارة مطبخ الفقراء. وقد سقطت منارة الجامع عام 800هـ (1397-1398م) فشيّدها في الحال السلطان برقوق وأنفق عليها من ماله. وسقطت المنارة مرتين بعد ذلك (817هـ-1414م-1415 و827هـ -1423-1424م) وكان يُعاد إصلاحها في كلّ مرّة. وحوالى ذلك العهد أنشأ السلطان برقوق صهريجاً للماء وشيّد سبيلاً وأقام ميضأة. وشيّد الطواشي جوهر القنطبائي المتوفي عام 844هـ (1440-1440م) مدرسة بالقرب من المسجد، وكان قايتباي أكثر الناس رعاية للجامع الأزهر في القرن التاسع الهجري، فقد أكمل ما زاده في بناء المسجد عام 900هـ (1494-1495م) أي قبل وفاته بوقت قصير. وكان له الفضل كذلك في إقامة منشات للفقراء والعلماء. وقد أثبتت النقوش بيان ما زاده في المسجد ويذكر ابن إياس (ج2، ص167، ص22 وما بعدها) أنه كان لهذا الوالي عادة غريبة، فقد اعتاد الذهاب إلى الجامع الأزهر متخفيّاً في زي مغربي ليصلّي وليسمع ما يقوله الناس عنه، على أن ابن إياس لم يذكر لنا النتيجة التي أفضى إليها هذا العمل، وبنى قانصوه الغوري اخر المماليك (906-922هـ ـ 1500-1516م) المئذنة ذات البرجين.
وفي العهد العثماني كان الفاتح سليم شاه كثيراً ما يزوره ويصلّي فيه، وقد أمر بتلاوة القران فيه وتصدّق على الفقراء المجاورين طلبة العلم الشرعي (تاريخ ابن إياس، ج3، ص116، و132 و246 و309 و313). وتجدر بنا الإشارة إلى الزاوية التي أقيمت ليصلّي فيها المكفوفون وسمّيت بزاوية العميان، فقد بناها عثمان كتخدا القزدوغلي (قاصد أوغلي) في عام 1148هـ (1735-1736م). ويظهر أنّ عبد الرحمن كتخدا المتوفي (عام 1190هـ-1776م) كان من أقارب عثمان القزدوغلي، وكان عبد الرحمن من أكثر الناس إحساناً إلى الأزهر. فقد بنى مقصورة وأحسن تأثيثها، وأقام قبلة للصلاة، ومنبراً للخطابة، وأنشأ مدرسةً لتعليم الأيتام، وعمل صهريجاً للمياه، وشيّد له قبراً دفن فيه، ووسط المباني الجديدة بين المدرسة الطيبرسية والمدرسة الأقبغاوية (التي حرف اسمها إلى الإبتغاوية فيما بعد).
ولم تكن النهضة في عهد محمد علي تعطف على الأزهر أوّل الأمر ولكن الخديويين في العهد الأخير بذلوا جهدهم للإبقاء على ما لهذا الجامع من مجد وصيت
يؤخذ من فهرس رسمي نشر عام 1268هـ (1851م) أنّ أقسام الأزهر وأروقته ومنشاته كانت بالأسماء الاتية:
1- الترك. 2- الشوام. 3- الكرد. 4- المغاربة. 5- البخارى. 6- الصعايدة. 7- الريافة (أهل الدلتا) أو المنايفة (أهل المنوفية) أو الشيخ الشنواتي. 8- البحاروة (أهل البحيرة). 9- الشيخ الباجوري. 10- المدرسة الإبتغاوية. 11- الفلاثة (أهل أفريقية الوسطى). 12- الشيخ ثعيلب. 13- الدناشرة (أهل دنوشرة وما جاورها). 14- ابن معمّر. 15- المدرسة الطيبرسية. 16- الشرقاوي. 17- الشبراخيتي. 18- الهنود. 19- البغدادية. 20- الدمنهوري. 21- البشابشة (أهل بشيبش وما جاورها). 22- الدكارنة أو الصليحية. 23- دارفور. 24- اليمنية. 25- البرابرة. 26- الجاوة. 27- العمارة الجديدة أو محمد المغربل. 28- السليمانية. 29-. عيسى أفندي. 30- الجبرتية.
ويقدّر عدد الكتب التي في الأزهر بنحو ثمانية الاف مصنف تتضمن ألف مصنف هي عبارة 19 ألف مجلّد. وإن هذا العدد قد تطوّر حتماً فيما بعد بشكل كبير
انتقل الأزهر بالقانون رقم 10 لسنة 1911 إلى مرحلة أخرى من النظام، إذ زيدت فيه مواد الدراسة، وبين اختصاص شيخ الجامع الأزهر، وأنشىء له مجلس تحت رئاسة شيخه يسمّى مجلس الأزهر الأعلى، ووضع فيه نظام لهيئة كبار العلماء وجعل لكلّ مذهب من المذاهب الأربعة شيخ ولكلّ معهد من المعاهد مجلس إدارة.
واستمر الأزهر خاضعاً لهذا القانون مع ما لحقه من التعديل إلى أن صدر القانون رقم 33 لسنة 1923 بإنشاء قسم للتخصص.
وفي 24 جمادى الاخرة سنة 1349 (15 تشرين الثاني سنة 1930) صدر مرسوم بقانون رقم 49 لسنة 1930 بإعادة تنظيم الجامع الأزهر والمعاهد الدينية العلمية الإسلامية، وبدىء العمل به من سنة 1931م.
وقد جعل هذا القانون التعليم في الأزهر أربع مراحل:
1- ابتدائي ومدته أربع سنوات ويدرس فيه من المواد ما يلي: الفقه، الأخلاق الدينية، التجويد، استذكار القران الكريم، التوحيد، السيرة النبوية، المطالعة والمحفوظات، الإنشاء، النحو، الصرف، الإملاء، الخط، التاريخ، الجغرافية، الحساب، الهندسة العملية، مبادىء العلوم، تدبير الصحة، الرسم.
2- ثانوي ومدّته خمس سنوات ويدرس فيه من المواد ما يلي: الفقه، التفسير، الحديث، التوحيد، استذكار القران الكريم، النحو، الصرف، البلاغة (البيان والبديع والمعاني)، العروض والقافية، المطالعة والمحفوظات، الإنشاء، أدب اللغة، الرياضة (الحساب والهندسة والجبر)، العلوم (الطبيعية والكيمياء والتاريخ الطبيعي)، المنطق، التاريخ، الجغرافية، الأخلاق، التربية الوطنية.
3- عال ومدّته أربع سنوات وينقسم إلى ثلاث كليّات:
أ- كلية اللغة العربية ويدرس فيها من المواد ما يلي: النحو، الوضع، الصرف، المنطق، علوم البلاغة، الاداب العربية وتاريخها، تاريخ العرب قبل الإسلام وتاريخ الأمم الإسلامية، التفسير، الحديث، الأصول، الإنشاء، فقه اللغة.
ب- كلية الشريعة ويدرس فيها من المواد ما يلي: التفسير، الحديث متناً ورجالاً ومصطلحاً، أصول الفقه، تاريخ التشريع الإسلامي، الفقه مع مقارنة المذاهب في المسائل الكلية وحكمة التشريع، اداب اللغة العربية، علوم البلاغة، المنطق.
ج- كلية أصول الدين ويدرس فيها من المواد ما يلي: التوحيد مع إيراد الحجج ودفع الشبه خصوصاً الذائع في العصر منها، المنطق والمناظرة، الفلسفة مع الرد على ما يكون منافياً للدين منها، الأخلاق، التفسير، الحديث، اداب اللغة العربية وتاريخها، تاريخ الإسلام، علم النفس، علوم البلاغة.
4- التخصص وهو على نوعين:
تخصص في المهنة وتخصص في المادة، والغرض من التخصص في المهنة هو إعداد علماء يقومون بمهنة الوعظ والإرشاد، أو الوظائف القضائية بالمحاكم الشرعية، والإفتاء والمحاماة، أو التدريس في المعاهد الدينية ومدارس الحكومة.
والغرض من التخصص في المادة إعداد علماء متفوّقين في العلوم الأساسية لكلّ كليّة من الكليّات الثلاث.
ويعيّن حاملو شهادة هذا القسم في وظائف التدريس بالكليّات وبأقسام التخصص، وهناك علاوة على ذلك أقسام غير نظامية سمح فيها بدخول الطلبة الذين لم تتوافر فيهم شروط القبول بالأقسام النظامية، وكذلك أفراد الجمهور للتوسع في دراسة اللغة العربية والعلوم الدينية.
الشهادات:
والشهادات التي تعطى للناجحين في الامتحانات النهائية هي:
1- الشهادة الابتدائية:
تمنح لمن أتموا دراسة القسم الابتدائي وتخوّل صاحبها الاندماج في القسم الثانوي للقسم الأول.
2- الشهادة الثانوية للقسم الأول:
تمنح لمن أتموا دراسة السنوات الأولى والثانية والثالثة من القسم الثانوي وتخوّل صاحبها الاندماج في القسم الثانوي للقسم الثاني.
3- الشهادة الثانوية للقسم الثاني:
تمنح لمن أتموا دراسة السنتين الرابعة والخامسة من القسم الثانوي وتخوّل صاحبها الاندماج في الكليات.
4- الشهادة العالية:
تمنح لمن أتموا دراسة كلية من كليات القسم العالي. والحائزون لها يكونون أهلاً للوظائف الكتابية بالجامع الأزهر والمعاهد الدينية والمحاكم الشرعية، والمجالس الحسبية والأوقاف والتدريس في المساجد، ولوظائف الخطابة والإمامة والمأذونية.
5- شهادة العالمية:
تمنح لمن أتموا دراسة التخصص في مهنة التدريس أو القضاء الشرعي أو الوعظ والإرشاد، والحائزون لها من قسم التخصص في مهنة التدريس يكونون أهلاً للتدريس في المعاهد الدينية وفي مدارس الحكومة. والحائزون لها من قسم التخصص في القضاء يكونون أهلاً للوظائف القضائية بالمحاكم الشرعية والإفتاء والمحاماة أمام المحاكم الشرعية والمجالس الحسبية. والحائزون لها من قسم التخصص في الوعظ والإرشاد يكونون أهلاً لوظائف الوعظ والإرشاد.
6- شهادة العالمية مع لقب أستاذ:
تمنح لمن تخصص في مادة من المواد. والحائزون لها يكونون أهلاً للتدريس في الكليات وفي أقسام التخصص
المجلس الأعلى للأزهر:
قضى قانون 193 بتأليف هيئة تشريعية لها حق النظر في اللوائح والقوانين التي تلزم لسير الدراسة والإدارة وغيرها في الأزهر والمعاهد الدينية، وتسمى تلك الهيئة (مجلس الأزهر الأعلى) ويؤلف من:
1- شيخ الجامع الأزهر.
2- وكيل الجامع الأزهر والمعاهد الدينية وله رئاسة المجلس عند غياب شيخ الجامع الأزهر.
3- مفتي الديار المصرية.
4- مشايخ الكليات الثلاث.
5- وكيل وزارة الحقانية.
6- وكيل وزارة الأوقاف.
7- وكيل وزارة المعارف العمومية.
8- وكيل وزارة المالية.
9- اثنين من هيئة كبار العلماء يعينان بأمر ملكي لمدة سنتين.
1-0 اثنين ممن يكون في وجودهما بالمجلس مصلحة للتعليم في الأزهر والمعاهد الدينية ويعينان بمرسوم لمدة سنتين
الأزهر تحت الإحتلال الفرنسى:
إن للأزهر دوراً رائداً في تاريخ مصر والأمة العربية والإسلامية ولا سيّما أيام الحادث الجليل الذي كان له أكبر صدى في تطور مصر التاريخي، وفي خاتمة القرن الثامن عشر، ونعني بذلك الغزو الفرنسي.
لقد وصلت حملة نابليون الغازية إلى مياه الإسكندرية، في يوم أول تموز سنة 1798م (17 محرّم سنة 1213هـ)، ونزل الجنود الفرنسيون إلى الثغر في مساء اليوم التالي، فاحتلته فرقة منهم، ثم تلاحقت قواتهم إلى دمنهور في طريقها إلى القاهرة، وأذاع نابليون على الشعب المصري منشوره الشهير، في الثاني من تموز، يقول فيه إنه قدم لمعاقبة الصناجق، الذين يحكمون مصر، ويعادون الفرنسيين ويظلمون تجارهم، والقضاء على سلطان المماليك، وإنقاذ المصريين من ظلمهم، وإصلاح دفة الحكم، وإن الفرنسيين يحبون المسلمين ويخلصون للسلطان العثماني، ثم يطلب استسلام القرى الواقعة في دائرة طريق جيشه لمسافة ثلاث ساعات، ويأمر المشايخ في كل بلد، بالتحفظ على أموال المماليك، وأنه يجب على المشايخ والعلماء والقضاة أن يلازموا وظائفهم، وعلى كل أحد أن يبقى مطمئناً في داره، وأن تكون الصلاة قائمة في الجوامع...
وهزم الفرنسيون قوات مراد بك في معركة الأهرام، أو معركة إمبابة، في 21 تموز سنة 1798م، وعبروا النيل واحتلوا القاهرة، وانسحبت القوات المدافعة الأخرى مؤمنة بعقم القتال، وتُركت العاصمة تحت رحمة الغزاة، فساد في أرجائها الاضطراب والذعر، وفرّ الكثيرون في مختلف الأنحاء.
وهنا يبدو الجامع الأزهر، في ثوبه الذي اتشح به غداة المحنة، واستمر متشحاً به خلال الأحداث المتعاقبة التي انتهت بجلاء المحتلين عن البلاد وتحريرها من الحكم الفرنسي، ثوب القيادة الشعبية، والزعامة الوطنية، ففي صباح يوم الأحد غرة شهر صفر سنة 1213هـ (22 تموز) اجتمع في الجامع الأزهر بعض العلماء والمشايخ، ولم يكن الغزاة قد عبروا النيل إلى القاهرة بعد، وتباحثوا في الأمر، واتفق الرأي على أن يبعثوا برسالة إلى الفرنسيين يسألونهم عن مقاصدهم ثم يرون ماذا يكون الجواب، وحمل الرسالة اثنان عبرا إلى معسكر الجيش الفرنسي بالجيزة وأخذا إلى القائد العام، وأسفرت المحادثات التي جرت بينهما عن إصدار خطاب لأهل مصر بالأمان، وتوكيد نيات الفرنسيين الحسنة، وطلب القائد العام حضور المشايخ والزعماء ليؤلف منهم ديواناً لتدبير الأمور، فاطمأن الناس، وعاد معظم المشايخ والزعماء الفارين، وفي يوم الثلاثاء 25 تموز بعد أن دخل الفرنسيون إلى القاهرة، واستقر بونابرت في منزل الألفي بالأزبكية، استدعى العلماء والمشايخ لمقابلته، وعلى رأسهم الشيخ عبد اللَّه الشرقاوي شيخ الجامع الأزهر، وأسفرت المباحثات عن تأليف ديوان يشرف على حكم القاهرة وتدبير شؤونها، مؤلف من تسعة أعضاء، هم الشيخ عبد اللَّه الشرقاوي، والشيخ خليل البكري، والشيخ مصطفي الصاوي، والشيخ سليمان الفيومي، والشيخ موسى السرسي، والشيخ مصطفي الدمنهوري، والشيخ أحمد العريشي، والشيخ يوسف الشبرخيتي، والشيخ محمد الدواخلي، وعين الشيخ محمد المهدي أميناً (سكرتيراً) لأعمال الديوان.
وهكذا أنشىء ديوان الحكم الأول، في ظلّ الاحتلال الفرنسي، من علماء الجامع الأزهر، وبالرغم من أن سلطة هذا الديوان كانت محدودة، وخاضعة لتوجيه المحتلين، فإن في تأليفه على هذا النحو، تنويه ظاهر بأهمية الجامع الأزهر، ومكانة علمائه، والاعتراف بزعامتهم الشعبية والوطنية.
وتتابعت الأحداث، ولم تستقر الأمور، ولم تهدأ النفوس. واستمر الفرنسيون في العمل لإخضاع البلاد، وسيّروا حملاتهم إلى الأقاليم البحرية والقبليّة، وهم يلقون مقاومة مستمرة من بقايا قوات الزعماء المماليك، ومن يلتفّ حولهم من جموع الشعب، وأمّا في العاصمة فقد اشتدّت وطأتهم شيئاً فشيئاً، وفرضوا عليها، كما فرضوا على باقي البلاد، مختلف الضرائب والمغارم الفادحة، وصادروا كثيراً من الأملاك والمباني، وهدموا أبواب الحارات الداخلية، لكي يُحكموا قبضتهم على سائر الأحياء، وأسرفوا في قتل الأهالي، وعلى الجملة فقد فرضوا على المدينة حكم إرهاب مطبق، وشعر الشعب القاهري بمنتهى الضيق والحرج، وأخذ يتربّص للانتفاض والانتقام.
ولاقت النقمة العامة صداها في الجامع الأزهر، وأُلفت داخل الجامع "لجنة للثورة" حسبما تسميها المصادر الفرنسية، أو "بعض المتعممين الذين لم ينظروا في عاقبة الأمور" حسبما يشير إليها الجبرتي، وأخذت تبثّ الدعاية للانتفاض والمقاومة، وبدأ الهياج كالعادة باحتشاد الجماهير في الطرقات، وضعف سلطان الديوان الأدبي، ولم يستمع الناس إلى كبار المشايخ بالتزام الهدوء والإخلاد إلى السكينة.
وبدت طلائع الهياج في يوم 21 تشرين أول سنة 1798، حيث احتشدت جموع الشعب منذ الصباح الباكر، ولا سيما في حي الحسينية، وساروا إلى بيت قاضي العسكر (قاضي القضاة التركي) وألزموه أن يركب معهم ليسير بهم إلى منزل بونابرت، ولكنه أحجم بعد ذلك خشية العواقب، فرجموه ونهبوا منزله. واجتمع في نفس الوقت جمعٌ عظيم بصحن الجامع الأزهر، وهم يهتفون بالثورة والقتال، وعلى رأسهم بعض المشايخ يلهبون أنفسهم بخطبهم، وعلم الجنرال ديبوي حاكم القاهرة بالخبر، فنزل إلى المدينة في كتيبة من الفرسان، فازدحمت الجموع من حوله، وتساقطت عليه وعلى رجاله الأحجار من كل صوب، فحاول ديبوي أن يهدىء الجموع، فلم يصغ إليه أحد، فهجم عليها بفرسانه، وردت الجماهير بالهجوم، وانهالوا عليه وعلى رجاله بالضرب والرجم، والطعن بالرماح والسيوف، فقتل ديبوي وبعض رجاله، وعندئذٍ اشتدّ الهياج، وتضاعفت الجموع، وانساب الثوّار إلى سائر الأحياء المجاورة، وتفاقمت الأحوال.
وأدرك نابليون خطورة الحال، واتفق رأي القادة على أن مركز الثورة الحقيقي هو الجامع الأزهر. وكان الثوار قد أقاموا المتاريس والحواجز، في سائر الشوارع والدروب المؤدية إلى الجامع الشهير، فأمر نابليون، أن تُنصب المدافع على المقطم، لكي تطلق مع مدافع القلعة على الأزهر.
يسرى محمد- عضو نشيط
رد: قصة الأزهر الشريف
من طرف يسرى محمد في السبت 14 نوفمبر 2009, 5:16 pm
وفي صباح اليوم التالي، خرجت كتائب عديدة من الفرنسيين، وسارت إلى مختلف الأنحاء التي
تجمعت فيها الجماهير، في سائر المناطق المؤدية إلى الجامع الأزهر، وسارت كتائب أخرى لتمنع
جموع الأهالي التي تقاطرت من الضواحي على العاصمة، وكان منها كتيبة يقودها الكولونيل
سلكوسكي ياور نابليون.
وكانت جموع الثوار قد تضاعفت، وازدادت حميّتها، فالتحمت ببعض الكتائب، وحاولت أن تزحف
على المرتفعات التي ركبت فيها المدافع فوق تلال البرقية والقلعة، فصدّها الفرنسيون، وقتلوا عدداً
كبيراً من الأهالي، وقتل في تلك الأثناء الكولونيل سلكوسكي، وحمل نبأ مصرعه إلى نابليون فحزن
لفقده حزناً عظيماً، واشتدّ سخطه على الثوّار، واعتزم أن ينكل بهم أيما تنكيل.
وكانت المدافع في أثناء ذلك ترسل نيرانها على مراكز الثوّار، ولا سيما المناطق المحيطة بالجامع
الأزهر، فتفتك بهم، وتحطم الدور والمتاجر، وتقوّض في طريقها كل شيء، فلما تفاقم الخطب،
واشتدّ الكرب، ذهب مشايخ الديوان عصراً لمقابلة نابليون (صارى عسكر) فاتهمهم بالتقصير،
وأنبهم على تهاونهم، فاعتذروا إليه، ورجوه أن يرفع الضرب عن المدينة، فاستمع إلى ضراعتهم،
وأمر بالكف عن الضرب مؤقتاً، وذهب المشايخ إلى الأزهر لينصحوا الثوار بالتزام الهدوء
والسكينة، فلم يصغوا إليهم، وردوهم بجفاء، ومنعوهم من دخول الجامع.
وهنا أيقن الفرنسيون أنه للتغلب نهائياً على الثوار لا بد من أن يحتلوا الجامع الأزهر والمنافذ
المؤدية إليه، وصدرت الأوامر بضرب الجامع الشهير، وأخذت القنابل تنهال عليه، وعلى الأحياء
المجاورة مثل الصنادقية الغورية، والفحامين وغيرها، بشدّة لا مثيل لها، فساد الفزع والروع،
وتزعزعت أركان الجامع وقتل كثير من الناس، ودفن الكثير منهم تحت الأنقاض، واستمر الضرب
حتى المساء، فمزّقت صفوف الثوار، وطالبوا بالأمان، وألقوا السلاح، وتفرّق معظمهم في سائر
الدروب والأزقة، ورفع الفرنسيون المتاريس من طرقات الجامع، وتواثبوا إليه، فرساناً ومشاةً،
واقتحموه اقتحام الضواري بخيولهم، واحتلوه في مناظر وحشية، غير مكترثين لحرمته الدينية
والعلمية. وكان ذلك في يوم الثلاثاء 23 تشرين أول سنة 1798م (13 جماى الأولى 1213هـ).
وإليك ما كتبه الجبرتي، وهو يومئذ شاهد عيان، وكان يقيم على مقربة من مسرح الحوادث، في
وصف تفاصيل هذا العمل الهمجي، الذي يعتبر من أفظع جرائم الحملة الفرنسية:
"وبعد هجعة الليل دخل الإفرنج المدينة كالسيل، ومروا في الأزقة والشوارع، لا يجدون لهم ممانع
كالشياطين، أو جند إبليس، وهدموا ما وجدوه من المتاريس، ودخل طائفة من باب البرقية، ومشوا
إلى الغورية، وكرّوا ورجعوا، وترددوا وما هجعوا، وعلموا باليقين أن لا دافع لهم ولا كمين،
وتراسلوا إرسالاً، ركباناً ورجالاً، ثم دخلوا إلى الجامع الأزهر، وهم راكبون الخيول، وبينهم المشاة
كالوعول، وتفرّقوا بصحنه ومقصورته، وربطوا خيولهم بقبلته، وعاثوا بالأروقة والحارات، وكسروا
القناديل والسهارات، وهشموا خزائن الطلبة والمجاورين والكتبة، ونهبوا ما وجدوه من المتاع
والأواني والقصاع، والودائع والمخبات بالدواليب والخزانات، ورشقوا الكتب والمصاحف، وعلى
الأرض طرحوها، وبأرجلهم ونعالهم داسوها... وشربوا الشراب وكسروا أوانيه، وألقوها بصحنه
ونواحيه، وكل من صادفوه به عروه ومن ثيابه أخرجوه".
وهكذا احتل الفرنسيون الجامع الأزهر، ومنعوا العلماء والطلاب من دخوله، وانتشر الجنود في
الأحياء المجاورة، ينهبون البيوت بحجة البحث عن السلاح، ويعيثون في الأسواق الفساد وينفذون
الاعتقالات، مما اضطر كثير من سكّان الأحياء المجاورة إلى الفرار ناجين بأنفسهم".
ويعلق الجبرتي على هذا العمل بقوله: "وانتهكت حرمة تلك البقعة بعد أن كانت أشرف البقاع
ويرغب الناس في سكناها، ويودعون عند أهلها ما يخافون عليه الضياع، والفرنساويون لا يمرّون
بها إلا في النادر، ويحترمونها عن غيرها في الباطن والظاهر، فانقلبت بهذه الحركة فيها
الموضوع، وانخفض على غير القياس المرفوع".
وليس من موضوعنا أن نتتبع حوادث هذه الثورة التي اضطرمت بها القاهرة على الفرنسيين،
والتي ذهب ضحيتها الاف من المصريين سواء منهم من قتل أثناء المعارك، أو قبض عليهم أفراداً
أو جماعات دون ذنب ولا جريمة، وسيقوا إلى القلعة ثم أُعدموا بعد ذلك. وإنما يهمنا من هذه
الحوادث فقط ما تعلّق منها بالجامع الأزهر، والدور الذي اضطلع به في مقاومة المحتلين.
لم تقف المحنة عند احتلال الجامع الأزهر، وانتهاك حُرمه على هذا النحو، بل وقع ثمة اعتداء
محزن اخر على علمائه.
ففي غداة احتلال الجامع، ذهب المشايخ إلى بيت سارى عسكر (نابليون)، يرجون منه العفو
وإصدار الأمان ليطمئن الناس، وتزول مخاوفهم، ثمّ رجوه أيضاً في جلاء الجنود عن الجامع
الأزهر، فوعدهم بإجابة ملتمسهم، ولكنه طلب إليهم التعريف عن زعماء الفتنة من مشايخ الأزهر،
فأبدوا له أنهم لا يعرفون أحداً منهم، فقال لهم إنهم يعرفونهم واحداً واحداً. ثم أصدر الأمر بجلاء
الجند عن الجامع، ولكن بقيت منهم كتيبة تبلغ السبعين، ترابط في الأحياء المجاورة، لضبط النظام،
والسهر على حركات الطلاب والأهالي.
وفي اليوم التالي، بعث الفرنسيون رجالهم للبحث عن زعماء الفتنة، "المتعممين" والقبض عليهم،
فانتهوا إلى القبض على الشيوخ الاتية أسماؤهم: الشيخ سلمان الجوسقي شيخ طائفة العميان،
والشيخ أحمد الشرقاوي، والشيخ عبد الوهاب الشبراوي، والشيخ يوسف المصيلحي، والشيخ
إسماعيل البراوي، وبحثوا عن الشيخ بدر المقدسي، ولكنه كان قد فرّ وسافر إلى الشام. وكان
هؤلاء جميعاً من أواسط علماء الأزهر. وأُخذ الشيوخ المقبوض عليهم إلى بيت البكري، حيث
اعتقلوا هنالك. فلما علم كبار الشيوخ بما وقع، ذهب وفد منهم، وعلى رأسه الشيخ السادات إلى
منزل "صارى عسكر" والتمسوا إليه العفو عن الشيوخ المقبوض عليهم، فاستُمهلوا، وطُلب إليهم
التريث والانتظار.
تجمعت فيها الجماهير، في سائر المناطق المؤدية إلى الجامع الأزهر، وسارت كتائب أخرى لتمنع
جموع الأهالي التي تقاطرت من الضواحي على العاصمة، وكان منها كتيبة يقودها الكولونيل
سلكوسكي ياور نابليون.
وكانت جموع الثوار قد تضاعفت، وازدادت حميّتها، فالتحمت ببعض الكتائب، وحاولت أن تزحف
على المرتفعات التي ركبت فيها المدافع فوق تلال البرقية والقلعة، فصدّها الفرنسيون، وقتلوا عدداً
كبيراً من الأهالي، وقتل في تلك الأثناء الكولونيل سلكوسكي، وحمل نبأ مصرعه إلى نابليون فحزن
لفقده حزناً عظيماً، واشتدّ سخطه على الثوّار، واعتزم أن ينكل بهم أيما تنكيل.
وكانت المدافع في أثناء ذلك ترسل نيرانها على مراكز الثوّار، ولا سيما المناطق المحيطة بالجامع
الأزهر، فتفتك بهم، وتحطم الدور والمتاجر، وتقوّض في طريقها كل شيء، فلما تفاقم الخطب،
واشتدّ الكرب، ذهب مشايخ الديوان عصراً لمقابلة نابليون (صارى عسكر) فاتهمهم بالتقصير،
وأنبهم على تهاونهم، فاعتذروا إليه، ورجوه أن يرفع الضرب عن المدينة، فاستمع إلى ضراعتهم،
وأمر بالكف عن الضرب مؤقتاً، وذهب المشايخ إلى الأزهر لينصحوا الثوار بالتزام الهدوء
والسكينة، فلم يصغوا إليهم، وردوهم بجفاء، ومنعوهم من دخول الجامع.
وهنا أيقن الفرنسيون أنه للتغلب نهائياً على الثوار لا بد من أن يحتلوا الجامع الأزهر والمنافذ
المؤدية إليه، وصدرت الأوامر بضرب الجامع الشهير، وأخذت القنابل تنهال عليه، وعلى الأحياء
المجاورة مثل الصنادقية الغورية، والفحامين وغيرها، بشدّة لا مثيل لها، فساد الفزع والروع،
وتزعزعت أركان الجامع وقتل كثير من الناس، ودفن الكثير منهم تحت الأنقاض، واستمر الضرب
حتى المساء، فمزّقت صفوف الثوار، وطالبوا بالأمان، وألقوا السلاح، وتفرّق معظمهم في سائر
الدروب والأزقة، ورفع الفرنسيون المتاريس من طرقات الجامع، وتواثبوا إليه، فرساناً ومشاةً،
واقتحموه اقتحام الضواري بخيولهم، واحتلوه في مناظر وحشية، غير مكترثين لحرمته الدينية
والعلمية. وكان ذلك في يوم الثلاثاء 23 تشرين أول سنة 1798م (13 جماى الأولى 1213هـ).
وإليك ما كتبه الجبرتي، وهو يومئذ شاهد عيان، وكان يقيم على مقربة من مسرح الحوادث، في
وصف تفاصيل هذا العمل الهمجي، الذي يعتبر من أفظع جرائم الحملة الفرنسية:
"وبعد هجعة الليل دخل الإفرنج المدينة كالسيل، ومروا في الأزقة والشوارع، لا يجدون لهم ممانع
كالشياطين، أو جند إبليس، وهدموا ما وجدوه من المتاريس، ودخل طائفة من باب البرقية، ومشوا
إلى الغورية، وكرّوا ورجعوا، وترددوا وما هجعوا، وعلموا باليقين أن لا دافع لهم ولا كمين،
وتراسلوا إرسالاً، ركباناً ورجالاً، ثم دخلوا إلى الجامع الأزهر، وهم راكبون الخيول، وبينهم المشاة
كالوعول، وتفرّقوا بصحنه ومقصورته، وربطوا خيولهم بقبلته، وعاثوا بالأروقة والحارات، وكسروا
القناديل والسهارات، وهشموا خزائن الطلبة والمجاورين والكتبة، ونهبوا ما وجدوه من المتاع
والأواني والقصاع، والودائع والمخبات بالدواليب والخزانات، ورشقوا الكتب والمصاحف، وعلى
الأرض طرحوها، وبأرجلهم ونعالهم داسوها... وشربوا الشراب وكسروا أوانيه، وألقوها بصحنه
ونواحيه، وكل من صادفوه به عروه ومن ثيابه أخرجوه".
وهكذا احتل الفرنسيون الجامع الأزهر، ومنعوا العلماء والطلاب من دخوله، وانتشر الجنود في
الأحياء المجاورة، ينهبون البيوت بحجة البحث عن السلاح، ويعيثون في الأسواق الفساد وينفذون
الاعتقالات، مما اضطر كثير من سكّان الأحياء المجاورة إلى الفرار ناجين بأنفسهم".
ويعلق الجبرتي على هذا العمل بقوله: "وانتهكت حرمة تلك البقعة بعد أن كانت أشرف البقاع
ويرغب الناس في سكناها، ويودعون عند أهلها ما يخافون عليه الضياع، والفرنساويون لا يمرّون
بها إلا في النادر، ويحترمونها عن غيرها في الباطن والظاهر، فانقلبت بهذه الحركة فيها
الموضوع، وانخفض على غير القياس المرفوع".
وليس من موضوعنا أن نتتبع حوادث هذه الثورة التي اضطرمت بها القاهرة على الفرنسيين،
والتي ذهب ضحيتها الاف من المصريين سواء منهم من قتل أثناء المعارك، أو قبض عليهم أفراداً
أو جماعات دون ذنب ولا جريمة، وسيقوا إلى القلعة ثم أُعدموا بعد ذلك. وإنما يهمنا من هذه
الحوادث فقط ما تعلّق منها بالجامع الأزهر، والدور الذي اضطلع به في مقاومة المحتلين.
لم تقف المحنة عند احتلال الجامع الأزهر، وانتهاك حُرمه على هذا النحو، بل وقع ثمة اعتداء
محزن اخر على علمائه.
ففي غداة احتلال الجامع، ذهب المشايخ إلى بيت سارى عسكر (نابليون)، يرجون منه العفو
وإصدار الأمان ليطمئن الناس، وتزول مخاوفهم، ثمّ رجوه أيضاً في جلاء الجنود عن الجامع
الأزهر، فوعدهم بإجابة ملتمسهم، ولكنه طلب إليهم التعريف عن زعماء الفتنة من مشايخ الأزهر،
فأبدوا له أنهم لا يعرفون أحداً منهم، فقال لهم إنهم يعرفونهم واحداً واحداً. ثم أصدر الأمر بجلاء
الجند عن الجامع، ولكن بقيت منهم كتيبة تبلغ السبعين، ترابط في الأحياء المجاورة، لضبط النظام،
والسهر على حركات الطلاب والأهالي.
وفي اليوم التالي، بعث الفرنسيون رجالهم للبحث عن زعماء الفتنة، "المتعممين" والقبض عليهم،
فانتهوا إلى القبض على الشيوخ الاتية أسماؤهم: الشيخ سلمان الجوسقي شيخ طائفة العميان،
والشيخ أحمد الشرقاوي، والشيخ عبد الوهاب الشبراوي، والشيخ يوسف المصيلحي، والشيخ
إسماعيل البراوي، وبحثوا عن الشيخ بدر المقدسي، ولكنه كان قد فرّ وسافر إلى الشام. وكان
هؤلاء جميعاً من أواسط علماء الأزهر. وأُخذ الشيوخ المقبوض عليهم إلى بيت البكري، حيث
اعتقلوا هنالك. فلما علم كبار الشيوخ بما وقع، ذهب وفد منهم، وعلى رأسه الشيخ السادات إلى
منزل "صارى عسكر" والتمسوا إليه العفو عن الشيوخ المقبوض عليهم، فاستُمهلوا، وطُلب إليهم
التريث والانتظار.
يسرى محمد- عضو نشيط
رد: قصة الأزهر الشريف
من طرف يسرى محمد في السبت 14 نوفمبر 2009, 5:18 pm
ولبث المقبوض عليهم في بيت البكري، إلى مساء يوم السبت، ثم جاءت ثلّة من الجند، وأخذتهم
أولاً إلى منزل "القومندان" بدرب الجماميز، ثمّ هنالك جرّدوا من ثيابهم، ثمّ اقتيدوا إلى القلعة،
وسجنوا هنالك. ويقول لنا الجبرتي، إنهم أعدموا في اليوم التالي رمياً بالرصاص، وألقيت جثثهم
من السور خلف القلعة، وغاب أمرهم عن أكثر الناس أياماً، ولكن يُستفاد من المصادر الفرنسية
المعاصرة، أنهم حوكموا بعد ذلك بأيام بطريقة سرّية، وحكم عليهم بالإعدام في يوم 3 تشرين
الثاني سنة 1798م، ثمّ أُعدموا في اليوم التالي، وتقول هذه المصادر إن عدد المحكوم عليهم كان
ستة لا خمسة، وإن سادسهم كان يُسمّى السيّد عبد الكريم، وإنهم أعدموا في ميدان القلعة، وقطعت
رؤوسهم.
وفي أثناء ذلك كان المشايخ يكرّرون سعيهم في سبيل العفو عن أولئك الشيوخ، ظناً منهم أنهم ما
زالوا على قيد الحياة.
وقد أشار الشيخ عبد اللَّه الشرقاوي شيخ الجامع الأزهر، ورئيس الديوان يومئذٍ إلى تلك الحوادث
المحزنة في كتابه "تحفة الناظرين" في الفقرة الاتية:
"إن الفرنسيين قتلوا من علماء مصر نحو ثلاثة عشر عالماً، ودخلوا بخيولهم الجامع الأزهر،
ومكثوا فيه يوماً، وبعض الليلة الثانية، وقتلوا فيه بعض العلماء، ونهبوا منه أموالاً كثيرة، وسبب
وجودهم فيه أنّ أهل البلد ظنوا أن العسكر لا يدخله فحولوا فيه أمتعة بيوتهم، فنهبوها ونهبوا أكثر
البيوت التي حول الجامع، ونشروا الكتب التي في الخزائن، يعتقدون أن بها أموالاً، وأخذ من كان
معهم من اليهود الذين يترجمون لهم، كتباً ومصاحف نفيسة".
بيد أن المغزى الذي يهمّنا هنا، هو أن المحتلين، إدراكاً منهم لزعامة علماء الأزهر الروحية
والشعبية يومئذٍ، قد لجأوا إلى هذه الزعامة يحاولون استغلالها في تهدئة الشعب، وحمله على التزام السكينة والخضوع.
وكان من أثر الثورة، وما اقترن بها من الاضطرابات، أنّ عُطل الديوان، فلمّا هدأت الأحوال،
أصدر نابليون في 21 كانون الأول سنة 1798، قراراً بإنشاء ديوان جديد، على مثل أوسع نطاقاً
من الديوان القديم، وجعل أعضاءه ستين بدل عشرة، وأدخل فيه إلى جانب العلماء ممثلين للطوائف
الأخرى، من الجند والتجار والأقباط والأجانب، وبلغ عدد العلماء فيه عشرة، معظمهم من شيوخ
الجامع الأزهر وهم: الشيخ عبد اللَّه الشرقاوي شيخ الجامع، الشيخ محمد المهدي، الشيخ مصطفي
الصاوي، الشيخ موسى السرسي، الشيخ محمد الأمير، الشيخ سليمان الفيومي، الشيخ أحمد
العريشي، الشيخ إبراهيم المفتي، الشيخ صالح الحنبلي، الشيخ محمد الدواخلي، الشيخ مصطفي
الدمنهوري، الشيخ خليل البكري، السيد حسين الرفاعي، الشيخ الدمرداشي.
وقد كان هذا الديوان الكبير الممثل لجميع الطوائف هو الديوان العام، وهو يجتمع بحسب الاقتضاء
فقط، وقد اختير من بين أعضائه، أربعة عشر عضواً يتألف منهم الديوان الخصوصي، وهو الديوان
العامل فعلاً، وقد قضى منشور التأسيس بأن يجتمع كل يوم "للنظر في مصالح الناس، وتوفير
أسباب السعادة والرفاهية لهم". وكان من بين أعضاء الديوان الخصوصي من العلماء خمسة، وهم
الشيخ عبد اللَّه الشرقاوي، الشيخ محمد المهدي، الشيخ مصطفي الصاوي، الشيخ سليمان الفيومي،
الشيخ خليل البكري، وأسندت رئاسة الديوان إلى الشيخ عبد اللَّه الشرقاوي.
وقد اضطلع الديوان الخصوصي بمهمته من تدبير شؤون القاهرة، وحفظ الأمن فيها، وإقامة العدل
وتقدير الضرائب وغيرها، وكان المحتلون يأخذون برأيه في معظم الشؤون.
وفي العاشر من شباط سنة 1799، غادر نابليون القاهرة ليقود الحملة التي أعدّها لغزو سوريا.
ونحن نعرف الفشل الذي مُنيت به هذه الحملة، وكيف تحطمت جهود الغزاة تحت أسوار ثغر عكا،
وكيف اضطر نابليون بعد هزيمته أن يعود أدراجه إلى القاهرة، فوصلها في منتصف شهر
حزيران. وكانت أعراض الانتفاض قد بدت أثناء ذلك في بعض الأقاليم البحرية، وشغل الفرنسيون
بقمعها، ثمّ قدمت إلى مياه الإسكندرية حملة عثمانية ونزلت في أبي قير، فهرع نابليون في قواته
إلى لقائها واستطاع أن يهزم الترك (أواخر تموز). ثم عاد بعد ذلك ثانية إلى القاهرة.
وهنا وصلته أنباء مقلقة عن سير الحوادث في أوروبا وفرنسا، فاعتزم مغادرة مصر، وغادرها فعلاً
في أواخر اب سنة 1799، وعين الجنرال باتست كليبر قائد حامية
دمياط، مكانه في القيادة العامة
.
وجاء كليبر إلى القاهرة، واستقرّ في منزل الألفي الذي كان ينزل به نابليون من قبل. وكان من أول
أعماله، أن استدعى أعضاء الديوان المخصوص لمقابلته، وتكلّم الشيخ محمد المهدي بالنيابة عن
يئة الديوان، فأبدى أسفه لسفر الجنرال بونابرت، وأعرب عن أمله في عدالة خلفه واستقامته، وردّ
الجنرال كليبر، فأكد أنه سوف يُعنى بالعمل على سعادة الشعب المصري.
ذلك لأن اللَّه بقدره الحكيم قد ربط بين مصير الجامع الأزهر، ومصير الجنرال كليبر برباط من
تدابيره الخفية القاهرة.
لبث الأزهر من بعد الثورة الوطنية التي اضطلع فيها بأعظم دور، والتي احتمل فيها أعظم
التضحيات، في حالة اضطراب شديد، وتفرّق كثير من أساتذته وطلابه، وركدت حلقاته ودروسه،
ولبث الفرنسيون يرقبون حركاته وسكناته بأعين ساهرة.
وعاش الأزهر وأهله من ذلك الوقت، في حالة نفسية متوترة، حتى أنه ما تكاد تبدو الدوريات
الفرنسية على مقربة منه، حتى يقع الهرج والاضطراب في المنطقة كلها، وتغلق أبواب الجامع،
وسائر الحوانيت والدور المجاورة.
وكان الفرنسيون أحياناً يحاولون إظهار توقيرهم وتكريمهم للجامع الأزهر على طريقتهم، ومن ذلك
ما رواه الجبرتي في حوادث يوم الأربعاء اخر رمضان سنة 1213هـ، لمناسبة احتفال الفرنسيين
في القاهرة، باستيلاء حملتهم على غزة وخان يونس من الترك، حيث يقول في ج3، ص48
: "وفي ذلك اليوم، بعد العصر بنحو عشرين درجة، حضر عدة من الفرنسيين، ومعهم كبير منهم،
وهم راكبون الخيول، وعدة من المشاة، وفيهم جماعة لابسون عمائم بيض، وجماعة أيضاً ببرانيط
ومعهم نفير ينفخ فيه، وبيدهم بيارق، وهي التي كانت عند المسلمين على قلعة العريش، إلى أن
وصلوا إلى الجامع الأزهر، فاصطفوا رجالاً وركباناً بباب الجامع، وطلبوا الشيخ الشرقاوي،
فسلمّوه تلك البيارق وأمروه برفعها ونصبها على منارات الجامع الأزهر، فنصبوا بيرقين ملونين
على المنارة الكبيرة ذات الهلالين، عند كل هلال بيرقاً، وعلى منارة أخرى بيرقاً ثالثاً. وعند
رفعهم ذلك، ضربوا عدّة مدافع من القلعة بهجةً وسروراً، وكان ذلك ليلة عيد الفطر".
على أنّ هذه المظاهر وأمثالها، مما كان يحرص الفرنسيون على إقامته في المناسبات الدينية
والقومية، مثل الاحتفال بالمولد النبوي، أو مولد الحسين، أو الاحتفال بوفاء النيل، وغير ذلك، لم
تكن هذه المظاهر تخفي الحقيقة الواضحة، وهي أن الأزهر علماءه وطلابه، كان يرى في أولئك
المحتلين ألدّ أعدائه، وأخطرهم على كيانه ونظمه، وقد ترك انتهاك الفرنسيين لحرمة الأزهر
واحتلاله، في نفوس الأزهريين كُرهاً لا يُمحى، وأمنية تضطرم في انهيار سلطان أولئك المعتدين،
وتحرير البلاد من نيرهم وعسفهم.
وقد كانت الأحداث في الواقع تسير إلى تحقيق هذه الأمنية بخطوات سريعة متعاقبة، ذلك أن كليبر
تولى القيادة العامة، وقد تحرّجت الأحوال وأخذت الصعاب تتفاقم، وكانت الجيوش العثمانية ما
زالت ماضية في استعدادها لدخول مصر، والأسطول الإنكليزي الذي يقوده السير سدني سميث،
يجوب المياه المصرية، من يافا إلى الإسكندرية ويقطع على الفرنسيين كل صلة خارجية، وبالرغم
من أن الفرنسيين هزموهم في موقعة دمياط (تشرين الثاني سنة 1799) فإن العثمانيين استمروا
بزحفهم على مصر من طريق سيناء، ومن ثم فقد رأى كليبر بعد التشاور مع قواده أن يقبل ما
عرضه العثمانيون والإنكليز من عقد الصلح على أساس جلاء الفرنسيين عن مصر، وانتهت
المفاوضات في ذلك إلى عقد معاهدة العريش (كانون الثاني سنة 1800)، وقد نصت على أن
يجلو الفرنسيون عن مصر بأسلحتهم ومعداتهم، وأن يكون جلاؤهم عن القاهرة في ظرف 45 يوماً
على الأكثر، من التصديق على المعاهدة، وتُلي هذا النبأ على أعضاء الديوان، وأُذيع مضمونه في
منشور أُلصقت منه نسخ في الأسواق والشوارع ففرح الناس واستبشروا خيراً.
ولكن الإنكليز نقضوا شروط المعاهدة، وأصروا على أن يُعتبر الفرنسيون أسرى، وأن يسلموا
أسلحتهم ومعداتهم. وفي خلال ذلك كانت الجيوش العثمانية قد وصلت إلى داخل البلاد، فعاد كليبر
إلى الاستعداد للدفاع، وهزم العثمانيين في موقعة جديدة بالقرب من المرج في مارس سنة 1800
.
واضطرمت القاهرة في نفس الوقت بثورة جديدة، وظهرت أعراض الانتفاض من جديد في كثير
من الأقاليم، وبدأت ثورة القاهرة في بولاق،
أولاً إلى منزل "القومندان" بدرب الجماميز، ثمّ هنالك جرّدوا من ثيابهم، ثمّ اقتيدوا إلى القلعة،
وسجنوا هنالك. ويقول لنا الجبرتي، إنهم أعدموا في اليوم التالي رمياً بالرصاص، وألقيت جثثهم
من السور خلف القلعة، وغاب أمرهم عن أكثر الناس أياماً، ولكن يُستفاد من المصادر الفرنسية
المعاصرة، أنهم حوكموا بعد ذلك بأيام بطريقة سرّية، وحكم عليهم بالإعدام في يوم 3 تشرين
الثاني سنة 1798م، ثمّ أُعدموا في اليوم التالي، وتقول هذه المصادر إن عدد المحكوم عليهم كان
ستة لا خمسة، وإن سادسهم كان يُسمّى السيّد عبد الكريم، وإنهم أعدموا في ميدان القلعة، وقطعت
رؤوسهم.
وفي أثناء ذلك كان المشايخ يكرّرون سعيهم في سبيل العفو عن أولئك الشيوخ، ظناً منهم أنهم ما
زالوا على قيد الحياة.
وقد أشار الشيخ عبد اللَّه الشرقاوي شيخ الجامع الأزهر، ورئيس الديوان يومئذٍ إلى تلك الحوادث
المحزنة في كتابه "تحفة الناظرين" في الفقرة الاتية:
"إن الفرنسيين قتلوا من علماء مصر نحو ثلاثة عشر عالماً، ودخلوا بخيولهم الجامع الأزهر،
ومكثوا فيه يوماً، وبعض الليلة الثانية، وقتلوا فيه بعض العلماء، ونهبوا منه أموالاً كثيرة، وسبب
وجودهم فيه أنّ أهل البلد ظنوا أن العسكر لا يدخله فحولوا فيه أمتعة بيوتهم، فنهبوها ونهبوا أكثر
البيوت التي حول الجامع، ونشروا الكتب التي في الخزائن، يعتقدون أن بها أموالاً، وأخذ من كان
معهم من اليهود الذين يترجمون لهم، كتباً ومصاحف نفيسة".
بيد أن المغزى الذي يهمّنا هنا، هو أن المحتلين، إدراكاً منهم لزعامة علماء الأزهر الروحية
والشعبية يومئذٍ، قد لجأوا إلى هذه الزعامة يحاولون استغلالها في تهدئة الشعب، وحمله على التزام السكينة والخضوع.
وكان من أثر الثورة، وما اقترن بها من الاضطرابات، أنّ عُطل الديوان، فلمّا هدأت الأحوال،
أصدر نابليون في 21 كانون الأول سنة 1798، قراراً بإنشاء ديوان جديد، على مثل أوسع نطاقاً
من الديوان القديم، وجعل أعضاءه ستين بدل عشرة، وأدخل فيه إلى جانب العلماء ممثلين للطوائف
الأخرى، من الجند والتجار والأقباط والأجانب، وبلغ عدد العلماء فيه عشرة، معظمهم من شيوخ
الجامع الأزهر وهم: الشيخ عبد اللَّه الشرقاوي شيخ الجامع، الشيخ محمد المهدي، الشيخ مصطفي
الصاوي، الشيخ موسى السرسي، الشيخ محمد الأمير، الشيخ سليمان الفيومي، الشيخ أحمد
العريشي، الشيخ إبراهيم المفتي، الشيخ صالح الحنبلي، الشيخ محمد الدواخلي، الشيخ مصطفي
الدمنهوري، الشيخ خليل البكري، السيد حسين الرفاعي، الشيخ الدمرداشي.
وقد كان هذا الديوان الكبير الممثل لجميع الطوائف هو الديوان العام، وهو يجتمع بحسب الاقتضاء
فقط، وقد اختير من بين أعضائه، أربعة عشر عضواً يتألف منهم الديوان الخصوصي، وهو الديوان
العامل فعلاً، وقد قضى منشور التأسيس بأن يجتمع كل يوم "للنظر في مصالح الناس، وتوفير
أسباب السعادة والرفاهية لهم". وكان من بين أعضاء الديوان الخصوصي من العلماء خمسة، وهم
الشيخ عبد اللَّه الشرقاوي، الشيخ محمد المهدي، الشيخ مصطفي الصاوي، الشيخ سليمان الفيومي،
الشيخ خليل البكري، وأسندت رئاسة الديوان إلى الشيخ عبد اللَّه الشرقاوي.
وقد اضطلع الديوان الخصوصي بمهمته من تدبير شؤون القاهرة، وحفظ الأمن فيها، وإقامة العدل
وتقدير الضرائب وغيرها، وكان المحتلون يأخذون برأيه في معظم الشؤون.
وفي العاشر من شباط سنة 1799، غادر نابليون القاهرة ليقود الحملة التي أعدّها لغزو سوريا.
ونحن نعرف الفشل الذي مُنيت به هذه الحملة، وكيف تحطمت جهود الغزاة تحت أسوار ثغر عكا،
وكيف اضطر نابليون بعد هزيمته أن يعود أدراجه إلى القاهرة، فوصلها في منتصف شهر
حزيران. وكانت أعراض الانتفاض قد بدت أثناء ذلك في بعض الأقاليم البحرية، وشغل الفرنسيون
بقمعها، ثمّ قدمت إلى مياه الإسكندرية حملة عثمانية ونزلت في أبي قير، فهرع نابليون في قواته
إلى لقائها واستطاع أن يهزم الترك (أواخر تموز). ثم عاد بعد ذلك ثانية إلى القاهرة.
وهنا وصلته أنباء مقلقة عن سير الحوادث في أوروبا وفرنسا، فاعتزم مغادرة مصر، وغادرها فعلاً
في أواخر اب سنة 1799، وعين الجنرال باتست كليبر قائد حامية
دمياط، مكانه في القيادة العامة
.
وجاء كليبر إلى القاهرة، واستقرّ في منزل الألفي الذي كان ينزل به نابليون من قبل. وكان من أول
أعماله، أن استدعى أعضاء الديوان المخصوص لمقابلته، وتكلّم الشيخ محمد المهدي بالنيابة عن
يئة الديوان، فأبدى أسفه لسفر الجنرال بونابرت، وأعرب عن أمله في عدالة خلفه واستقامته، وردّ
الجنرال كليبر، فأكد أنه سوف يُعنى بالعمل على سعادة الشعب المصري.
ذلك لأن اللَّه بقدره الحكيم قد ربط بين مصير الجامع الأزهر، ومصير الجنرال كليبر برباط من
تدابيره الخفية القاهرة.
لبث الأزهر من بعد الثورة الوطنية التي اضطلع فيها بأعظم دور، والتي احتمل فيها أعظم
التضحيات، في حالة اضطراب شديد، وتفرّق كثير من أساتذته وطلابه، وركدت حلقاته ودروسه،
ولبث الفرنسيون يرقبون حركاته وسكناته بأعين ساهرة.
وعاش الأزهر وأهله من ذلك الوقت، في حالة نفسية متوترة، حتى أنه ما تكاد تبدو الدوريات
الفرنسية على مقربة منه، حتى يقع الهرج والاضطراب في المنطقة كلها، وتغلق أبواب الجامع،
وسائر الحوانيت والدور المجاورة.
وكان الفرنسيون أحياناً يحاولون إظهار توقيرهم وتكريمهم للجامع الأزهر على طريقتهم، ومن ذلك
ما رواه الجبرتي في حوادث يوم الأربعاء اخر رمضان سنة 1213هـ، لمناسبة احتفال الفرنسيين
في القاهرة، باستيلاء حملتهم على غزة وخان يونس من الترك، حيث يقول في ج3، ص48
: "وفي ذلك اليوم، بعد العصر بنحو عشرين درجة، حضر عدة من الفرنسيين، ومعهم كبير منهم،
وهم راكبون الخيول، وعدة من المشاة، وفيهم جماعة لابسون عمائم بيض، وجماعة أيضاً ببرانيط
ومعهم نفير ينفخ فيه، وبيدهم بيارق، وهي التي كانت عند المسلمين على قلعة العريش، إلى أن
وصلوا إلى الجامع الأزهر، فاصطفوا رجالاً وركباناً بباب الجامع، وطلبوا الشيخ الشرقاوي،
فسلمّوه تلك البيارق وأمروه برفعها ونصبها على منارات الجامع الأزهر، فنصبوا بيرقين ملونين
على المنارة الكبيرة ذات الهلالين، عند كل هلال بيرقاً، وعلى منارة أخرى بيرقاً ثالثاً. وعند
رفعهم ذلك، ضربوا عدّة مدافع من القلعة بهجةً وسروراً، وكان ذلك ليلة عيد الفطر".
على أنّ هذه المظاهر وأمثالها، مما كان يحرص الفرنسيون على إقامته في المناسبات الدينية
والقومية، مثل الاحتفال بالمولد النبوي، أو مولد الحسين، أو الاحتفال بوفاء النيل، وغير ذلك، لم
تكن هذه المظاهر تخفي الحقيقة الواضحة، وهي أن الأزهر علماءه وطلابه، كان يرى في أولئك
المحتلين ألدّ أعدائه، وأخطرهم على كيانه ونظمه، وقد ترك انتهاك الفرنسيين لحرمة الأزهر
واحتلاله، في نفوس الأزهريين كُرهاً لا يُمحى، وأمنية تضطرم في انهيار سلطان أولئك المعتدين،
وتحرير البلاد من نيرهم وعسفهم.
وقد كانت الأحداث في الواقع تسير إلى تحقيق هذه الأمنية بخطوات سريعة متعاقبة، ذلك أن كليبر
تولى القيادة العامة، وقد تحرّجت الأحوال وأخذت الصعاب تتفاقم، وكانت الجيوش العثمانية ما
زالت ماضية في استعدادها لدخول مصر، والأسطول الإنكليزي الذي يقوده السير سدني سميث،
يجوب المياه المصرية، من يافا إلى الإسكندرية ويقطع على الفرنسيين كل صلة خارجية، وبالرغم
من أن الفرنسيين هزموهم في موقعة دمياط (تشرين الثاني سنة 1799) فإن العثمانيين استمروا
بزحفهم على مصر من طريق سيناء، ومن ثم فقد رأى كليبر بعد التشاور مع قواده أن يقبل ما
عرضه العثمانيون والإنكليز من عقد الصلح على أساس جلاء الفرنسيين عن مصر، وانتهت
المفاوضات في ذلك إلى عقد معاهدة العريش (كانون الثاني سنة 1800)، وقد نصت على أن
يجلو الفرنسيون عن مصر بأسلحتهم ومعداتهم، وأن يكون جلاؤهم عن القاهرة في ظرف 45 يوماً
على الأكثر، من التصديق على المعاهدة، وتُلي هذا النبأ على أعضاء الديوان، وأُذيع مضمونه في
منشور أُلصقت منه نسخ في الأسواق والشوارع ففرح الناس واستبشروا خيراً.
ولكن الإنكليز نقضوا شروط المعاهدة، وأصروا على أن يُعتبر الفرنسيون أسرى، وأن يسلموا
أسلحتهم ومعداتهم. وفي خلال ذلك كانت الجيوش العثمانية قد وصلت إلى داخل البلاد، فعاد كليبر
إلى الاستعداد للدفاع، وهزم العثمانيين في موقعة جديدة بالقرب من المرج في مارس سنة 1800
.
واضطرمت القاهرة في نفس الوقت بثورة جديدة، وظهرت أعراض الانتفاض من جديد في كثير
من الأقاليم، وبدأت ثورة القاهرة في بولاق،
يسرى محمد- عضو نشيط
رد: قصة الأزهر الشريف
من طرف يسرى محمد في السبت 14 نوفمبر 2009, 5:19 pm
ثم امتدت بسرعة إلى سائر الأحياء، وهجم الثوار على معسكرات الفرنسيين، وفتكوا بهم، وأقاموا المتاريس
في الشوارع، ونجحوا في صنع البارود، واشتدت الوطأة على المحتلين، وبذل الفرنسيون جهوداً عنيفة لقمع
الهياج، ولجأوا إلى أشدّ الوسائل، وارتكبوا خلال ذلك كثيراً من أعمال التخريب والسفك، وأحرقت أحياء
كثيرة وقصور عديدة بحي الأزبكية وغيره، وانتهى الأمر بقمع الثورة (نيسان سنة 1800) واسترد
الفرنسيون سلطانهم كاملاً، ونقضوا عهد الأمان الذي أعطوه لأهل القاهرة، وفرضوا عليها غرامات فادحة،
ونكلوا بكثير من العلماء والأعيان، وساد المدينة حكم إرهاب مرّوع، واشتدّ الجفاء بين المحتلين وأهل البلاد
ا
لأزهر تحت الإحتلال الفرنسى (2)
:مصرع كليبر:
وفي هذا الأفق المتوتر القائم، وقع حادث اهتزّت له البلاد، واهتزت له أركان الاحتلال الفرنسي، ذلك هو
مصرع الجنرال كليبر.
وكان الجنرال كليبر قد خلف نابليون في سكنى قصر الألفي، المشرف على بركة الأزبكية، واتخذه في نفس
الوقت مركزاً للقيادة العامة، ولكنه أقام حيناً في الجيزة، بجوار المركز العام لأركان الحرب، حتى يتم
إصلاح القصر. ففي يوم السبت 14 حزيران سنة 1800 الموافق 21 محرم سنة 1215هـ، جاء كليبر من
الجيزة ومعه المسيو بروتان كبير المهندسين، وأحد أعضاء البعثة العلمية، إلى حي الأزبكية، ليتفقد أعمال
الإصلاح في منزله، وليجيب دعوة الجنرال داماس إلى تناول الغداء، وكان يقيم في دار قريبة، تفصلها عن
دار القائد العام حديقة مستطيلة، فلما غادر كليبر دار الجنرال داماس، سار مع المهندس بروتان، مخترقاً
الحديقة صوب داره، فبرز من أحد مماشي الحديقة فتى نحيف القامة، متوسط الجسم، وتقدّم من القائد العام
كليبر ولوّح إليه بيده كأنما يسأله صدقه أو يلتمس أمراً، فأشار إليه كليبر بالانصراف قائلاً (ما فيش)، ولكن
الفتى وثب نحوه، وقبض بيسراه على يده بشدّة، وجرد بيده اليمنى خنجراً كان يخفيه تحت ثيابه، وطعن به
الجنرال عدة طعنات سريعة، أصابته في صدره وبطنه وذراعه، فسقط إلى الأرض صريعاً وهو يصيح
مستغيثاً، وبادر المهندس بروتان إلى نجدته، ولكن الفتى انقض عليه كذلك وطعنه بخنجره عدة طعنات، سقط
على أثرها مغمياً عليه، ثم وثب مهرولاً إلى مماشي الحديقة فغاب فيها واختفي عن الأعين.
وتواثب الحرّاس من كل ناحية إلى مكان الاستغاثة، فألفوا قائدهم صريعاً غارقاً في دمائه، وقد فارق الحياة
بعد ذلك بقليل، وزميله بروتان ملقى على قيد أمتار منه، ولم يروا للقاتل أثراً، فاشتد الضجيج والاضطراب،
وهرول الضباط والرؤساء من كل صوب، وانطلق عشرات الجند إلى الجهات المجاورة يفتشون عن القاتل،
واعتقد الرؤساء أن تلك الجريمة إنما هي نتيجة لمؤامرة كبيرة، دبرها أهل القاهرة، فصدرت الأوامر إلى
القلاع والحصون بالتأهب، وانطلق الجند إلى شوارع المدينة، وسرى الرعب في الناس، فأسرعوا إلى الفرار
والاختفاء، وأغلق التجار حوانيتهم، فأقفرت الطرق، وساد المدينة سكون رهيب.
غير أن ذلك الرعب العام، ما لبث أن تبددت سحبه بعد أمد قصير، إذ لم تمض ساعة حتى ظفر الجند بشاب،
كان مختفياً في البستان المجاور لمنزل القائد العام، وراء جدار متهدّم، فقبضوا عليه، وقدم للاستجواب في
الحال أمام مجلس عسكري، انعقد في منزل الجنرال داماس، واستجوبه الجنرال منو أقدم الضباط، وخلف
كليبر في القيادة العامة.
وقد ظهر من الاستجواب الأول أن الشاب المقبوض عليه يسمى سليمان الحلبي، وأنه وُلد في مدينة حلب
بولاية الشام، وعمره أربع وعشرون سنة، وأنه قدم إلى القاهرة مع إحدى القوافل، ونزل بالجامع الأزهر.
وحاول المتهم أن ينكر ما نسب إليه من جريمة قتل القائد العام، والشروع في قتل المهندس بروتان، ولكنه
ووجه بعدّة قرائن، منها وجود خنجره على مقربة من مسرح الحادث، ووجود قطعة قماش خضراء قطعت
من جلبابه، ووجود خدوش ورضوض بوجهه ورأسه نتيجة لمقاومة المهندس بروتان، وتعرّف بعض الجند
عليه، إذ رأوه في صبيحة ذلك اليوم في الجيزة حيث كان القائد العام، ولوحظ أنه يتبعه أينما سار، وإزاء
إصرار المتهم على إنكاره، قرّر المجلس إحالته على العذاب، فشدّ وثاقه وما زال يُجلد حتى التمس الصفح،
ووعد بقول الحقيقة.
وعندئذٍ اعترف سليمان بفعلته، وقرّر أنه جاء من غزة إلى القاهرة ليقتل القائد العام، وقد حرضه على ذلك
أغوات الينكجرية، نزولاً على رغبة زعماء الجيش العثماني، وأن أحداً لم يحرضه بمصر على ارتكاب
جريمته، ولكنه يعرف مصر من قبل، إذ كان طالباً بالجامع الأزهر، ومكث به ثلاث سنوات، وقد تعرّف مُذ
قدم في هذه المرة إلى القاهرة، وسكن بالجامع الأزهر، بأربعة مشايخ من طلابه هم: محمد الغزي، وأحمد
الوالي، وعبد اللَّه الغزي، وعبد القادر الغزي، وأنه أطلع هؤلاء الزملاء على مشروعه، فنصحوه بالرجوع
عنه لاستحالة تنفيذه.
فأصدر القائد العام منو في الحال أمره، بالقبض على المشايخ الأربعة المذكورين، ولم تمض ساعة حتى
قبض على ثلاثة منهم، وأحضروا إلى المجلس، واستجوبوا في مساء ذلك اليوم، وتتلخص أقوالهم فيما يأتي:
1- الشيخ عبد اللَّه الغزي: شاب في الثلاثين من عمره، مولود في غزّة، وساكن في الجامع الأزهر،
وصناعته قراءة القران، وقرر أنه يعرف سليمان، وأنه راه لاخر مرة قبل الحادث بثلاثة أيام، غير أنه أصرّ
على تأكيده بأن سليمان لم يكاشفه بنيته.
2- الشيخ محمد الغزي: شاب في الخامسة والعشرين، مولود في غزّة، وسكنه بالجامع الأزهر، وصناعته
قراءة القران وأقر بأنه عرف سليمان مذ كان بمصر ثلاثة أعوام، وأنه راه قبل الحادث بيومين وتحادث معه،
وأن سليمان قال له إنه سيرحل رحلة قد لا يعود منها، ولكنه لم يصاحره قط بنيته في اغتيال القائد العام.
3- الشيخ أحمد الوالي: قارىء بالجامع الأزهر، متوسط العمر، ومولود في غزة، قرر أنه يعرف سليمان،
وأنه راه منذ عشرين يوماً، ولم يره بعد ذلك، وأنه أفضى إليه بأنه يقصد أن يقاتل في سبيل اللَّه، بقتل أحد
النصارى، وأنه شرح له فساد رأيه، وحاول أن يمنعه عن إتمام قصده، فلم يفلح.
4- أما الشيخ عبد القادر الغزي: فقد قبض عليه بعد ذلك، وتبيّن من استجوابه أنه قارىء بالجامع الأزهر
ومولود بغزة، وقد قرّر أنه يعرف سليمان، وأنه أخبره بعزمه على المغازاة في سبيل اللَّه.
وقد أدى استجواب المشايخ الأربعة إلى القبض على شخص اخر هو مصطفي أفندي البورصلي، إذ ذكره
الشيخ أحمد الوالي، وقال إن سليمان كان يذهب للقراءة في منزله، وقد قرر مصطفي أفندي، وهو معلم تركي
في الحادية والثمانين من عمره، أن سليمان تلميذه منذ أعوام، وأنه زاره في منزله منذ عشرين يوماً للسلام
عليه، فأضافه ليلة واحدة لفقره ولسابق علاقته به، وأنه لم يخبره بشيء مطلقاً
في الشوارع، ونجحوا في صنع البارود، واشتدت الوطأة على المحتلين، وبذل الفرنسيون جهوداً عنيفة لقمع
الهياج، ولجأوا إلى أشدّ الوسائل، وارتكبوا خلال ذلك كثيراً من أعمال التخريب والسفك، وأحرقت أحياء
كثيرة وقصور عديدة بحي الأزبكية وغيره، وانتهى الأمر بقمع الثورة (نيسان سنة 1800) واسترد
الفرنسيون سلطانهم كاملاً، ونقضوا عهد الأمان الذي أعطوه لأهل القاهرة، وفرضوا عليها غرامات فادحة،
ونكلوا بكثير من العلماء والأعيان، وساد المدينة حكم إرهاب مرّوع، واشتدّ الجفاء بين المحتلين وأهل البلاد
ا
لأزهر تحت الإحتلال الفرنسى (2)
:مصرع كليبر:
وفي هذا الأفق المتوتر القائم، وقع حادث اهتزّت له البلاد، واهتزت له أركان الاحتلال الفرنسي، ذلك هو
مصرع الجنرال كليبر.
وكان الجنرال كليبر قد خلف نابليون في سكنى قصر الألفي، المشرف على بركة الأزبكية، واتخذه في نفس
الوقت مركزاً للقيادة العامة، ولكنه أقام حيناً في الجيزة، بجوار المركز العام لأركان الحرب، حتى يتم
إصلاح القصر. ففي يوم السبت 14 حزيران سنة 1800 الموافق 21 محرم سنة 1215هـ، جاء كليبر من
الجيزة ومعه المسيو بروتان كبير المهندسين، وأحد أعضاء البعثة العلمية، إلى حي الأزبكية، ليتفقد أعمال
الإصلاح في منزله، وليجيب دعوة الجنرال داماس إلى تناول الغداء، وكان يقيم في دار قريبة، تفصلها عن
دار القائد العام حديقة مستطيلة، فلما غادر كليبر دار الجنرال داماس، سار مع المهندس بروتان، مخترقاً
الحديقة صوب داره، فبرز من أحد مماشي الحديقة فتى نحيف القامة، متوسط الجسم، وتقدّم من القائد العام
كليبر ولوّح إليه بيده كأنما يسأله صدقه أو يلتمس أمراً، فأشار إليه كليبر بالانصراف قائلاً (ما فيش)، ولكن
الفتى وثب نحوه، وقبض بيسراه على يده بشدّة، وجرد بيده اليمنى خنجراً كان يخفيه تحت ثيابه، وطعن به
الجنرال عدة طعنات سريعة، أصابته في صدره وبطنه وذراعه، فسقط إلى الأرض صريعاً وهو يصيح
مستغيثاً، وبادر المهندس بروتان إلى نجدته، ولكن الفتى انقض عليه كذلك وطعنه بخنجره عدة طعنات، سقط
على أثرها مغمياً عليه، ثم وثب مهرولاً إلى مماشي الحديقة فغاب فيها واختفي عن الأعين.
وتواثب الحرّاس من كل ناحية إلى مكان الاستغاثة، فألفوا قائدهم صريعاً غارقاً في دمائه، وقد فارق الحياة
بعد ذلك بقليل، وزميله بروتان ملقى على قيد أمتار منه، ولم يروا للقاتل أثراً، فاشتد الضجيج والاضطراب،
وهرول الضباط والرؤساء من كل صوب، وانطلق عشرات الجند إلى الجهات المجاورة يفتشون عن القاتل،
واعتقد الرؤساء أن تلك الجريمة إنما هي نتيجة لمؤامرة كبيرة، دبرها أهل القاهرة، فصدرت الأوامر إلى
القلاع والحصون بالتأهب، وانطلق الجند إلى شوارع المدينة، وسرى الرعب في الناس، فأسرعوا إلى الفرار
والاختفاء، وأغلق التجار حوانيتهم، فأقفرت الطرق، وساد المدينة سكون رهيب.
غير أن ذلك الرعب العام، ما لبث أن تبددت سحبه بعد أمد قصير، إذ لم تمض ساعة حتى ظفر الجند بشاب،
كان مختفياً في البستان المجاور لمنزل القائد العام، وراء جدار متهدّم، فقبضوا عليه، وقدم للاستجواب في
الحال أمام مجلس عسكري، انعقد في منزل الجنرال داماس، واستجوبه الجنرال منو أقدم الضباط، وخلف
كليبر في القيادة العامة.
وقد ظهر من الاستجواب الأول أن الشاب المقبوض عليه يسمى سليمان الحلبي، وأنه وُلد في مدينة حلب
بولاية الشام، وعمره أربع وعشرون سنة، وأنه قدم إلى القاهرة مع إحدى القوافل، ونزل بالجامع الأزهر.
وحاول المتهم أن ينكر ما نسب إليه من جريمة قتل القائد العام، والشروع في قتل المهندس بروتان، ولكنه
ووجه بعدّة قرائن، منها وجود خنجره على مقربة من مسرح الحادث، ووجود قطعة قماش خضراء قطعت
من جلبابه، ووجود خدوش ورضوض بوجهه ورأسه نتيجة لمقاومة المهندس بروتان، وتعرّف بعض الجند
عليه، إذ رأوه في صبيحة ذلك اليوم في الجيزة حيث كان القائد العام، ولوحظ أنه يتبعه أينما سار، وإزاء
إصرار المتهم على إنكاره، قرّر المجلس إحالته على العذاب، فشدّ وثاقه وما زال يُجلد حتى التمس الصفح،
ووعد بقول الحقيقة.
وعندئذٍ اعترف سليمان بفعلته، وقرّر أنه جاء من غزة إلى القاهرة ليقتل القائد العام، وقد حرضه على ذلك
أغوات الينكجرية، نزولاً على رغبة زعماء الجيش العثماني، وأن أحداً لم يحرضه بمصر على ارتكاب
جريمته، ولكنه يعرف مصر من قبل، إذ كان طالباً بالجامع الأزهر، ومكث به ثلاث سنوات، وقد تعرّف مُذ
قدم في هذه المرة إلى القاهرة، وسكن بالجامع الأزهر، بأربعة مشايخ من طلابه هم: محمد الغزي، وأحمد
الوالي، وعبد اللَّه الغزي، وعبد القادر الغزي، وأنه أطلع هؤلاء الزملاء على مشروعه، فنصحوه بالرجوع
عنه لاستحالة تنفيذه.
فأصدر القائد العام منو في الحال أمره، بالقبض على المشايخ الأربعة المذكورين، ولم تمض ساعة حتى
قبض على ثلاثة منهم، وأحضروا إلى المجلس، واستجوبوا في مساء ذلك اليوم، وتتلخص أقوالهم فيما يأتي:
1- الشيخ عبد اللَّه الغزي: شاب في الثلاثين من عمره، مولود في غزّة، وساكن في الجامع الأزهر،
وصناعته قراءة القران، وقرر أنه يعرف سليمان، وأنه راه لاخر مرة قبل الحادث بثلاثة أيام، غير أنه أصرّ
على تأكيده بأن سليمان لم يكاشفه بنيته.
2- الشيخ محمد الغزي: شاب في الخامسة والعشرين، مولود في غزّة، وسكنه بالجامع الأزهر، وصناعته
قراءة القران وأقر بأنه عرف سليمان مذ كان بمصر ثلاثة أعوام، وأنه راه قبل الحادث بيومين وتحادث معه،
وأن سليمان قال له إنه سيرحل رحلة قد لا يعود منها، ولكنه لم يصاحره قط بنيته في اغتيال القائد العام.
3- الشيخ أحمد الوالي: قارىء بالجامع الأزهر، متوسط العمر، ومولود في غزة، قرر أنه يعرف سليمان،
وأنه راه منذ عشرين يوماً، ولم يره بعد ذلك، وأنه أفضى إليه بأنه يقصد أن يقاتل في سبيل اللَّه، بقتل أحد
النصارى، وأنه شرح له فساد رأيه، وحاول أن يمنعه عن إتمام قصده، فلم يفلح.
4- أما الشيخ عبد القادر الغزي: فقد قبض عليه بعد ذلك، وتبيّن من استجوابه أنه قارىء بالجامع الأزهر
ومولود بغزة، وقد قرّر أنه يعرف سليمان، وأنه أخبره بعزمه على المغازاة في سبيل اللَّه.
وقد أدى استجواب المشايخ الأربعة إلى القبض على شخص اخر هو مصطفي أفندي البورصلي، إذ ذكره
الشيخ أحمد الوالي، وقال إن سليمان كان يذهب للقراءة في منزله، وقد قرر مصطفي أفندي، وهو معلم تركي
في الحادية والثمانين من عمره، أن سليمان تلميذه منذ أعوام، وأنه زاره في منزله منذ عشرين يوماً للسلام
عليه، فأضافه ليلة واحدة لفقره ولسابق علاقته به، وأنه لم يخبره بشيء مطلقاً
يسرى محمد- عضو نشيط
رد: قصة الأزهر الشريف
من طرف يسرى محمد في السبت 14 نوفمبر 2009, 5:21 pm
--------------------------------------------------------------------------------
ولسنا نود أن نتتبع تفاصل هذه القضية الشهيرة بأكثر من ذلك، ولكن الذي نود أن ننوّه به هنا هو أن التحقيق كان يتجه في أحيان كثرة إلى ذكر الشيخ الشرقاوي شيخ الجامع الأزهر، وإلى اصطياد القرائن أو الأقوال التي تثبت علمه أو علم غيره من كبار العلماء، بمشروع اغتيال كليبر بيد أن التحقيق لم يسفر في النهاية عن شيء من ذلك.
وعلى أثر التحقيق أنشئت محكمة عسكرية لمحاكمة المتهمين من تسعة أعضاء، وعقدت في اليوم التالي 15 حزيران. واستغرق هذا اليوم استجواب المتهمين، وفي اليوم التالي 16 حزيران، ألقى المدعي العام مرافعته، وكانت عنيفة ملتهبة، وطالب برؤوس المتهمين، ما عدا مصطفي أفندي البورصلي، وبعد اختتام المرافعات، أصدرت المحكمة حكمها الاتي:
1- أن تحرق لسليمان الحلبي يده اليمنى، ثم يعدم فوق الخازوق، وتترك جثته حتى تفترسها الجوارح.
2- أن يعدم عبد القادر الغزي، على الخازوق أيضاً، وأن تصادر أمواله.
3- أن يعدم كل من محمد الغزي، وعبد اللَّه الغزي، وأحمد الوالي، بقطع الرأس، ثم توضع رؤوسهم فوق الرماح، وتحرق جثثهم.
وقضى ببراءة مصطفي أفندي البورصلي، وإطلاق سراحه.
وفي اليوم التالي الأربعاء 26 محرّم سنة 1215 (19 حزيران سنة 1800) قام الفرنسيون بتشييع الجنرال كليبر في موكب عسكري حافل، وعلى إثر دفنه في بقعة تقع أمام باب القصر العيني، أُخذ الخمسة المحكوم عليهم، إلى التل القريب المعروف بتل العقارب، ونفذت فيهم الأحكام الصادرة عليهم.
وهكذا فجع الأزهر مرة أخرى، في ظلّ الاحتلال الفرنسي، في عدد من طلابه، بعد أن فُجع في ثورة القاهرة الأولى، في عدد من علمائه، بيد أن الفجيعة كانت في كل مرة عنوان زعامته الروحية والوطنية، وكان مصرع كليبر بيد سليمان الحلبي أحد أبنائه القدماء انتقاماً للأزهر لما أصابه من اعتداء المحتلين بانتهاك حُرمه، وتدنيس قدسيته، ولم تكن "مغازاة" سليمان في سبيل اللَّه، بعيدة عن هذا المعنى.
وعلى إثر دفن الجنرال كليبر، وتنفيذ الحكم في قاتله، رأى الفرنسيون أن يتخذوا نحو الجامع الأزهر بعض الإجراءات التحفظية، بعد أن اقتنعوا مما أثبته التحقيق أن الأزهر كان مهد المؤامرة، وقد أوى إليه القاتل ودبر فيه جريمته، وبعدما زادت شكوكهم في موقف علمائه، ففي يوم الجمعة 28 محرّم سنة 1215هـ (21 حزيران سة 1800) ذهب الجنرال منو إلى الأزهر، ومعه حاكم المدينة الجنرال بليار، والاغا (أي المحافظ)، وطافوا به، وأمروا بحفر بعض الأماكن للتفتيش عن السلاح، وكتبوا أسماء المجاورين (الطلاب)، في قوائم، وأمروا بأن لا يبيت بالجامع أحد من الغرباء، وأن لا يسمح بإيواء أي شخص افاقي، وأخرجوا منه سائر الطلبة الترك (ومنهم الشوام)، وتوجس المجاورون من هذه الإجراءات، فشرعوا في نقل متاعهم وكتبهم، وإخلاء الأروقة، ونقلوا الكتب الموقوفة بها إلى أماكن أخرى خارج الجامع، وساد الجامع وأروقته جو من الوحشة والركود.
وعندئذٍ رأى شيخ الجامع الشيخ الشرقاوي وزملاؤه، أن استمرار الدراسة في مثل هذا الجو أمر متعذر، وأنه من الأفضل أن يغلق نهائياً، حتى تتحسن الأحوال وتزول الشكوك، ففي عصر ذلك اليوم نفسه ذهب المشايخ، الشرقاوي، والمهدي والصاوي، وقابلوا الجنرال منو، واستأذنوه في قفل الجامع وتسميره.
وفي صباح اليوم التالي، أخرج سائر المجاورين، وأغلقت أبواب الجامع الشهير، وسمرت في سائر الجهات، وكانت هذه أوّل مرة في تاريخه يغلق فيها، بعد أن لبث منذ إنشائه نحو ثمانية قرون ونصف، مفتوح الأبواب لكلّ طالب وقاصد.
وكذلك أغلقت مدرسة (جامع) محمد بك أبي الذهب المواجهة للجامع الأزهر وسمرت أبوابها، وأخرج منها الطلبة الأتراك.
ثم عمد الفرنسيون على إثر هذه الحوادث، إلى اتباع سياسة القمع والعسف، وفرض الإتاوات الثقيلة، ونهب الدور والمتاع. وحاول الجنرال منو في نفس الوقت أن يتقرب إلى المصريين، فأعلن اعتناقه للإسلام، وتزوّج سيدة مصرية من رشيد، وتسمّى بعبد اللَّه جاك منو. وأعاد تأليف الديوان في تشرين الأول سنة 1800، بعد أن لبث معطلاً بضعة أشهر، وكان أعضاؤه في هذه المرة تسعة فقط، معظمهم أيضاً من كبار علماء الأزهر وهم: الشيخ عبد اللَّه الشرقاوي شيخ الجامع الأزهر، ورئيس الديوان، والشيخ محمد المهدي، والشيخ سليمان الفيومي، والشيخ محمد الأمير، والشيخ مصطفي الصاوي، والشيخ عبد الرحمن الجبرتي، المؤرخ، والشيخ علي الرشيدي، والسيد خليل البكري، والشيخ موسى السدسي، وعُين الشيخ إسماعيل الزرقاني قاضياً، والشاعر السيد إسماعيل الخشاب، أميناً لمحفوظات الديوان وكاتباً لسلسلة التواريخ، وهي عبارة عن محاضر جلسات الديوان، وسجل الحوادث اليومية الهامة. ومما هو جدير بالذكر، أنه كان بين مشاريع الجنرال منو أن يصدر جريدة يومية بالعربية عنوانها "التنبيه" وصدر القرار بذلك بالفعل، وعين السيد إسماعيل الخشاب رئيساً لتحريرها، ولكن القرار لم ينفذ، ولم تصدر الجريدة.
هذا وبينما كان الجنرال منو منهمكاً في مشاريعه، كان الإنكليز والترك، يعدون معداتهم الأخيرة لاجتياح مصر. وفي آذار سنة 1801 نزل الإنكليز إلى الإسكندرية، وهرع منو في قواته للقائهم، ونشبت بين الفريقين معركة هزم فيها الفرنسيون، وتابع الإنكليز بعد ذلك زحفهم حتى القاهرة. وتحرّك الجيش العثماني في نفس الوقت من العريش، وسار حتى وصل إلى مقربة من القاهرة، وهزمت كذلك القوات الفرنسية التي تصدّت لوقفه، وعندئذٍ تحرّج موقف الفرنسيين، وأدركوا أنه لا مفرّ من النزول على ضغط الحوادث، وقررّوا المفاوضة في عقد الصلح، وانتهت المفاوضات بين الفريقين على أن يتم جلاء الجنود الفرنسيين عن مصر، ومعهم أسلحتهم وأمتعتهم، ووقعت المعاهدة في 31 اب سنة 1801، وتم جلاء جميع الفرنسيين عن البلاد في منتصف شهر تشرين الأول، وبذلك اختتمت من تاريخ مصر صفحة مشجية، فياضة بالحوادث والمحن، ولكن فياضة في نفس الوقت بعوامل اليقظة والنهوض.
وكان قد مضى على إغلاق الجامع الأزهر زهاء عام، فما كادت، تذاع أنباء الصلح، وتأهب الفرنسيين للجلاء، حتى بادر أولو الأمر بفتح أبوابه، وكنسه وتنظيفه، وإعداده لاستقبال الطلاب والأساتذة، ويضع الجبرتي تاريخ افتتاح الجامع في يوم الاثنين 24 صفر سنة 1216هـ. ويضعه علي المبارك في المحرّم سنة 1216هـ. وفي يوم الجمعة التالي حضر الوزير حسن باشا ومعه الشيخ السادات، وأديّا صلاة الجمعة بالجامع بمناسبة افتتاحه، وكان يوماً حافلاً. وكان لافتتاح الأزهر، بعدما توالى عليه خلال الاحتلال الفرنسي من الحوادث المؤسفة، أطيب وقع في النفوس
يسرى محمد- عضو نشيط
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق