على الرغم من أن الدول والمنظمات العالمية طالما تعلن
رغبتها فى التخلص من النظام السورى القمعى وتدين أعماله الوحشية ضد
المدنيين، إلا إن العلاقات الاقتصادية الخفية تظل قائمة دون تراجع، لتثبت
أن المصالح التجارية أقوى وأبقى، وهو ما اتضح فى مراسلات تضمنتها تسريبات
ويكيليكس بين أطراف سورية وأخرى إيطالية ويونانية وسعودية.
ففى يوم 9 مايو 2011 تبادلت إدارتان فى فرع شركة إنتراكوم
اليونانية فى سوريا، مراسلة إلكترونية، لتأكيد تسلم 500 جهاز لاسلكى محمول
غير قابل للاعتراض، من نظام «تترا» الذى تصنعه شركة سيليكس الإيطالية موديلVS3000 والمخصص
للاستخدام الأمنى، وذلك لتركيبها فى مواقع تابعة للشرطة والأمن السياسى
والشرطة العسكرية والقوات الجوية، فى دمشق وحمص وحلب ودير الزور واللاذقية
وطرطوس، وهى التركيبات التى بلغت تكلفتها حتى أكتوبر 2011 نحو 7.3 مليون
يورو، وفق مراسلة بين مقر «إنتراكوم» فى اليونان وفرعها بدمشق يوم 19
أكتوبر 2011.
وشركة «إنتراكوم» هى شركة يونانية بدأت أعمالها فى سوريا
بافتتاح فرعها فى دمشق عام 2005، حيث تعمل فى تركيب شبكة الاتصالات السلكية
واللاسلكية للمؤسسة السورية للاتصالات والمنظمة السورية للاتصالات
اللاسلكية، أما نظام «تيترا» فهو نظام رقمى تنتجه شركة «سيليكس» الإيطالية-
إحدى الشركات التابعة لشركة فينميكانيكا الإيطالية والتى تعمل فى مجالات
الدفاع والفضاء والأمن - ويدعم شبكات اللاسلكى التى يستخدمها أفراد الجيش
والشرطة، حيث يتميز بقوة تشفيرية آمنة ضد عمليات التنصت أو الاختراق.
ولا تتمثل قيمة تلك المراسلة فقط فى أنها تكشف عن تركيب تلك
المعدات فى مواقع شرطية وعسكرية شهدت اضطرابات أمنية عنيفة عقب شهرين من
استمرار قمع تلك الأنظمة للثورة السورية إثر انطلاقها فى مارس 2011، إلا أن
أهميتها تتزايد بالنظر إلى عدم إفصاح الشركة الإيطالية عن استخدام هذا
النظام فى مجالات الدفاع والأمن إبان تعاقدها فى فبراير 2008 مع المنظمة
اللاسلكية السورية«SWO» وبالتعاون مع شركة إنتراكوم
اليونانية لتطبيق نظام «تيترا» نظير 40 مليون يورو، ما يتعارض مع قواعد
الإفصاح والشفافية المطلوبة لاسيما فى ظل تعدد استخدامات ذلك النظام وعدم
اقتصارها على الجوانب العسكرية فقط، إذ يمكن استخدامه فى أغراض مدنية
كالإسعاف والدفاع المدنى.
وعلى الرغم من تزامن هذه الرسالة مع فرض الاتحاد الأوروبى يوم
9 مايو عقوبات تحظر تصدير شحنات الأسلحة والمعدات التى تستخدم لأغراض
أمنية لسوريا، إلا إن هذه العقوبات لم تمنع الشركة الإيطالية عن تقديم
خدماتها للنظام السورى، إذ توضح رسالة بتاريخ 5 يوليو 2011 تقديم «سيليكس»
نصائح وتوجيهات لشركة إنتراكوم اليونانية «فرع دمشق» لتلافى بعض الخروقات
التى شابت نظام «تترا».
وقد يبدو أن تلك المعاملات هى معاملات بين شركات خاصة لا
تمتلك الحكومات سيطرة عليها، إلا أن النظر إلى تجارب سابقة يوضح قدرة الدول
الغربية على إحكام الحصار على الأنظمة التى تتهمها بالقمع، حال رغبتها فى
ذلك، إذ سبق أن فرضت الولايات المتحدة بعض العقوبات المالية على شركات
صينية وسنغافورية وإماراتية نتيجة تعاملاتها مع النظام الإيرانى، وهو ما لم
يحدث مع تلك الشركات التى تعاملت مع النظام السورى ووفرت له معدات تساعده
فى قمع شعبه.
وتتضمن الوثائق المسربة مراسلات تؤكد دراية «سيليكس»
الإيطالية بخضوع أنظمة الاتصالات التى توفرها للنظام السورى تحت بند «معدات
تساعد فى قمع الشعب السورى» والتى حظرت الولايات المتحدة توريدها لدمشق،
ففى رسالة وجهتها شركة سيليكس إلى إنتراكوم اليونانية «فرع دمشق» يوم 4
أكتوبر 2011، أوضحت أن بعض المعدات المزمع إرسالها لسوريا والمصنوعة فى
الولايات المتحدة، سيصعب شحنها للأراضى السورية بسبب العقوبات الأمريكية
بحظر تصدير معدات أمريكية الصنع تساعد فى قمع الشعب السورى، وهو ما لم يمنع
الشركة من مواصلة إمداد النظام السورى بالأنظمة المطلوبة، إذ تضمنت
الرسالة سعيها للبحث عن مصدر بديل.
ولم يقتصر الدعم الذى قدمته الشركة الإيطالية على توفير
المعدات فقط، بل قدمت دعمًا فنيًا بإرسال مهندسيها لتدريب مهندسى «انتراكوم
- دمشق» على تكنولوجيا نظام «تيترا» وكيفية إجراء تركيبات المعدات الخاصة
بها، وصيانتها، وذلك وفق مراسلة وجهتها إنتراكوم اليونانية إلى إنتراكوم
السورية بتاريخ 2 فبراير 2012.
ولم يتوقف التعاون الاقتصادى مع النظام السورى على الدول
الغربية فقط، ولكن توضح إحدى المراسلات المؤرخة فى 12 سبتمبر 2011، توجيه
القمة السنوية الثالثة للمستثمرين السعوديين دعوة إلى البنك المركزى السورى
والمؤسسة العامة للتأمين السورية لحضور المؤتمر المزمع عقده فى الرياض بين
4 إلى 5 ديسمبر 2012، ويسترسل مدير التسويق الخاص بالقمة فى توضيح المزايا
التى ستتمتع بها سوريا من خلال القمة التى تعرف نفسها بأنها منصة لمناقشة
الاستثمارات السعودية بالخارج، وإقامة مشاريع مشتركة مع مستثمرين محليين،
إذ أوضحت الرسالة رغبة القمة فى حضور الطرف السورى حيث لديه فرصة للقاء
أكثر من 100 مستثمر من المملكة العربية السعودية يمتلكون بحد أدنى 500
مليون دولار أمريكى لكل مستثمر، وأوضحت أن الجهات السورية التى تم دعوتها
يمكنها عقد لقاءات مع المستثمرين السعوديين، والمكاتب العائلية ومديرى
صناديق الاستثمار والمشاركة فى حلقات النقاش التى تدور حول القضايا الملحة
التى تواجه صناعة التمويل.
ولعل ذلك يتناقض مع الموقف السعودى الرسمى الذى طالما أكد على
إدانته للأعمال القمعية التى يرتكبها النظام السورى، ما يجعل من الغريب أن
تتوجه إحدى تكتلات المملكة الاستثمارية لدعوة جهات سورية للمشاركة فى
قمتها للحصول على مزيد من الاستثمارات فى أراضيها، أخذاً فى الاعتبار أن
الظروف السياسية والأمنية فى ذلك الوقت غير جاذبة على الإطلاق لأى
استثمارات خارجية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق