أرشيفى
«روزبة الأصفهانى» هو الاسم المرجَّح لمن عُرف فى التاريخ الإسلامى باسم سلمان الفارسى.
هاجر روزبة من موطنه فى ظروف مجهولة واتجه إلى الغرب ليحل فى الموصل شمال العراق أو فى الشام حسب الروايتين.
وكان ذلك كما يبدو فى أول صباه، فانضمّ فى الشام إلى أحد الأديرة متنصرا على يد راهب، وخدم الدير والراهب مدة حتى مات هذا الراهب.. وكان قد اطّلع على أمور منه تدل على عدم الأمانة، إذ كان الراهب يجمع الصدقات باسم الدير، ثم يكتنزها لنفسه، ولا يوزع منها على فقراء المؤمنين.. فأخبر روزبة أهل الدير بحقيقة أمره ودلهم على الأماكن التى كان يخزن فيها المال، فكشفوا عنها فوجدوها ملأى بالذهب والفضة، فنبشوا قبر الراهب وصلبوه ثم قاموا يرجمونه بالحجارة.
وجاؤوا برجل آخر ليخلفه فى رئاسة الدير، قال عنه سلمان فى ما بعد طبقا لرواية ابن عساكر فى «تاريخ دمشق»: «ولا والله ما رأيت رجلا قط يصلى الخمس أرى أنه أفضل منه ولا أشد اجتهادا ولا أزهد فى الدنيا ولا أدأب ليلا ولا نهارا منه.. وما أعلمنى أحببت شيئا قط قبله».
وفى سبيل البحث عن الحقيقة التى ترضى القلب وتقنع العقل، ظل روزبة مهاجرا ومتنقلا، تاركا ثراء أبيه الباذخ حتى انتهت به الرحلة إلى أن بيع رقيقا لأحد اليهود بالمدينة.. وعلى الفور توجه روزبة إلى النبى محمد (صلى الله عليه وسلم)، وأعلن إسلامه على يديه، وفى ذلك الوقت غيّر النبى اسمه إلى سلمان جريا على عادته مع الأشخاص الذين يأتونه لإعلان إسلامهم وتكون لهم أسماء غريبة أو غير مستساغة.. وحاول الشيعة فى ما بعد تسميته سلمان المحمدى، لكن الاسم لم يتعمم.
لا يوجد ذِكر لسلمان فى معركتَى بدر وأحد، وإنما يبرز اسمه فجأة فى معركة الخندق (5 هجرية)، وكان قد أشار على النبى (صلى الله عليه وسلم) بأن يحفر الخندق حول المدينة.. وكان سلمان يعرف هذا الشكل من التحصينات غير المعروفة فى الجزيرة، لأن الحروب الجاهلية لم تكن فى حاجة إلى هذه الوسائل الدفاعية. ونعيش هذا المشهد وهذا الحدث الفارق فى حياة سلمان ومسيرة الإسلام مع الوصف التفصيلى البديع للمبدع خالد محمد خالد الذى سجله فى كتابه الأشهر «رجال حول الرسول»:
«كان ذلك يوم الخندق. فى السنة الخامسة للهجرة. إذ خرج نفر من زعماء اليهود قاصدين مكة، مؤلبين المشركين ومحزّبين الأحزاب على رسول الله والمسلمين، متعاهدين معهم على أن يعاونوهم فى حرب حاسمة تستأصل شأفة هذا الدين الجديد.
ووضعت خطة الحرب الغادرة، على أن يهجم جيش قريش وغطفان على المدينة من خارجها، بينما يهاجم بنو قريظة من الداخل، ومن وراء صفوف المسلمين، الذين سيقعون آنئذ بين شقى رحى تطحنهم، وتجعلهم ذكرى!
وفوجئ الرسول والمسلمون يوما بجيش لجب يقترب من المدينة فى عدة متفوقة وعتاد مدمدم.
وأُسقِطَ فى أيدى المسلمين، وكاد صوابهم يطير من هول المباغتة.
وصوّر القرآن الموقف، فقال الله تعالى:
(ذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا) (الأحزاب: ١٠).
أربعة وعشرون ألف مقاتل تحت قيادة أبى سفيان وعُيَيْنة بن حصن يقتربون من المدينة ليطوقوها وليبطشوا بطشتهم الحاسمة كى ينتهوا من محمد ودينه، وأصحابه.
وهذا الجيش لا يمثل قريشا وحدها.. بل ومعها كل القبائل والمصالح التى رأت فى الإسلام خطرا عليها.
إنها محاولة أخيرة وحاسمة يقوم بها جميع أعداء الرسول: أفرادا، وجماعات، وقبائل، ومصالح.
ورأى المسلمون أنفسهم فى موقف عصيب..
وجمع الرسول أصحابه ليشاورهم فى الأمر..
وطبعا، أجمعوا على الدفاع والقتال.. ولكن كيف الدفاع؟
هنالك تقدم الرجل طويل الساقين، غزير الشعر، الذى كان الرسول يحمل له حبا عظيما، واحتراما كبيرا.
تقدّم سلمان الفارسى وألقى من فوق هضبة عالية نظرة فاحصة على المدينة، فألفاها محصنة بالجبال والصخور المحيطة بها.. بيد أن هناك فجوة واسعة، ومهيأة، يستطيع الجيش أن يقتحم منها الحمى فى يسر.
وكان سلمان قد خبر فى بلاد فارس الكثير من وسائل الحرب وخدع القتال، فتقدم للرسول صلى الله عليه وسلم بمقترحه الذى لم تعهده العرب من قبل فى حروبها.. وكان عبارة عن حفر خندق يغطى جميع المنطقة المكشوفة حول المدينة.
والله يعلم، ماذا كان المصير الذى كان ينتظر المسلمين فى تلك الغزوة لو لم يحفروا الخندق الذى لم تكد قريش تراه حتى دوختها المفاجأة، وظلت قواتها جاثمة فى خيامها شهرا وهى عاجزة عن اقتحام المدينة، حتى أرسل الله تعالى عليها ذات ليلة ريحا صرصرا عاتية اقتلعت خيامها، وبدّدت شملها.
ونادى أبو سفيان فى جنوده آمرا بالرحيل إلى حيث جاؤوا فلولا يائسة منهوكة!
خلال حفر الخندق كان سلمان يأخذ مكانه مع المسلمين وهم يحفرون ويدأبون.. وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يحمل معوله ويضرب معهم. وفى الرقعة التى يعمل فيها سلمان مع فريقه وصحبه، اعترضت معولهم صخور عاتية..
كان سلمان قوى البنية شديد الأسر، وكانت ضربة واحدة من ساعده الوثيق تفلق الصخر وتنشره شظايا، ولكنه وقف أمام هذه الصخرة عاجزا.. وتواصى عليها بمن معه جميعا فزادتهم رهقا!
وذهب سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأذنه فى أن يغيّروا مجرى الحفر تفاديا لتلك الصخرة العنيدة المتحدية.
وعاد الرسول عليه الصلاة والسلام مع سلمان يعاين بنفسه المكان والصخرة..
وحين رآها دعا بمعول، وطلب من أصحابه أن يبتعدوا قليلا عن مرمى الشظايا..
وسمّى بالله، ورفع كلتا يديه الشريفتين القابضتين على المعول فى عزم وقوة، وهوى به على الصخرة، فإذا بها تنثلم، ويخرج من ثنايا صدعها الكبير وهج عالٍ مضىء.
ويقول سلمان: لقد رأيته يضىء ما بين لابَتَيْها، أى يضىء جوانب المدينة.. وهتف رسول الله صلى الله عليه وسلم مكبرا:
«الله أكبر.. أُعطِيتُ مفاتيح فارس، ولقد أضاء لى منها قصور الحيرة، ومدائن كسرى، وإن أمتى ظاهرة عليها».
ثم رفع المعول، وهوت ضربته الثانية، فتكررت الظاهرة، وبرقت الصخرة المتصدعة بوهج مضىء مرتفع، وهلل الرسول عليه السلام مكبِّرا:
«الله أكبر.. أُعطِيتُ مفاتيح الروم، ولقد أضاء لى منها قصورها الحمراء، وإن أمتى ظاهرة عليها».
ثم ضرب ضربته الثالثة فألقت الصخرة سلامها واستسلامها، وأضاء برقها الشديد الباهر، وهلل الرسول وهلل المسلمون معه.. وأنبأهم أنه يبصر الآن قصور سوريا وصنعاء وسواها من مدائن الأرض التى ستخفق فوقها راية الله يوما، وصاح المسلمون فى إيمان عظيم:
هذا ما وعدَنا الله ورسوله. وصدق الله ورسوله!
كان سلمان صاحب المشورة بحفر الخندق.. وكان صاحب الصخرة التى تفجر منها بعض أسرار الغيب والمصير، حين استعان عليها برسول الله صلى الله عيه وسلم، وكان قائما إلى جوار الرسول يرى الضوء، ويسمع البشرى.. ولقد عاش حتى رأى البشرى حقيقة يعيشها، وواقعا يحياه، فرأى مدائن الفرس والروم..
رأى قصور صنعاء وسوريا ومصر والعراق..
رأى جنبات الأرض كلها تهتز بالدوىّ المبارك الذى ينطلق من ربا المآذن العالية فى كل مكان مشعا أنوار الهدى والخير!».
واشتهر عن سلمان أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يجتمع به فى لقاءات متكررة كانت تتم بينهما على انفراد وتستمر ساعات طويلة، ويذكر أبو نعيم فى «حلية الأولياء» عن أبى الدرداء -وكان متآخيا مع سلمان- قوله: «إن فيكم رجلا كان رسول الله إذا خلا به لم يبغِ أحدا غيره».. وأخرج بن عبد البر فى «الاستيعاب» عن عائشة: «كان لسلمان مجلس من رسول الله ينفرد به فى الليل حتى كاد يغلبنا على رسول الله» والضمير فى «يغلبنا» عائد إلى زوجات النبى.
ويروى ابن عساكر عن علِى بن أبى طالب قوله عن سلمان: «أدرك علم الأولين والآخرين.. من لكم بلقمان الحكيم».. وينقل ابن عبد البر عن أبى هريرة قوله عن سلمان: «كان صاحب الكتابين» بمعنى الإنجيل والقرآن.
وفى ضوء هذه الحقائق، وارد أن تكون لسلمان ثقافة متميزة عن بقية أصحابه المسلمين.. وقد وردتنا قطوف وشذرات تدل على عقلية فاحصة ربما اتصلت بخلفية معرفية معينة.
ومن روائع ما يُؤثَر عنه رسالته الجوابية إلى أبى الدرداء، وكان النبى (صلى الله عليه وسلم) قد آخى بينه وبين سلمان، وفى الأيام الأخيرة من حياته عاش أبو الدرداء فى بلاد الشام، فأرسل إلى سلمان رسالة يدعوه فيها إلى الرحيل إلى بيت المقدس حتى يحظى بشرف وثواب الموت هناك.. فكان رد سلمان قطعة من الحكمة الخالصة:
«إن الأرض لا تقدس أحدا وإنما يقدس كل إنسان عمله».
وعند الشيعة الإمامية فسلمان هو أحد الأركان الأربعة.. ويطلق هذا الاسم إلى جانب سلمان على ثلاثة من كبار الصحابة انحازوا إلى على بن أبى طالب، فكانوا دائما معه وهم أبو ذر الغفارى وعمار بن ياسر، ويختلفون على الرابع فيذكر بعضهم المقداد بن عمرو، وبعضهم حذيفة بن اليمان.. واختصوا سلمان بمعجزات وكرامات ليست لغيره من الأركان الأربعة، فقد كان -كالمسيح- يعلم ما يجرى فى البيوت من خفايا، وتنبأ بمذبحة كربلاء وهو يمر بها فى طريقه إلى المدائن! ولحلاقى الشيعة عناية خاصة بسلمان لأنهم يقولون إنه كان حلاق النبى.
وفى مرضه الذى مات فيه دخل عليه سعد بن أبى وقاص يعوده، فبكى سلمان فقال له سعد: «ما يبكيك يا أبا عبد الله؟ لقد تُوُفّى رسول الله وهو عنك راضٍِ»، فأجابه سلمان: «والله ما أبكى جزعا من الموت ولا حرصا على الدنيا، ولكن رسول الله عهد إلينا فقال: ليكن حظ أحدكم من الدنيا مثل زاد الراكب، وها أنا ذا حولى هذه الأساود».. يعنى بالأساود الأشياء الكثيرة».
ويعلق سعد على هذه الجملة فيقول: «فنظرت فلم أرَ حوله إلا جفنة يأكل فيها ومطهرة يشرب منها ويتوضأ».
وعن موته يروى أن رسول الله قال له: «إذا حضرتك الوفاة حضر أقوام يحبون الطيب ولا يأكلون الطعام»، وهذه إشارة إلى الملائكة. لذلك لما احتُضر أخرج صُرّة مسك كان النبى قد أهداها إليه، فنضحها من حوله وطلب من زوجته أن تخرج وتغلق الباب.. فخرجت، ولما رجعت وجدته قد مات.
هاجر روزبة من موطنه فى ظروف مجهولة واتجه إلى الغرب ليحل فى الموصل شمال العراق أو فى الشام حسب الروايتين.
وكان ذلك كما يبدو فى أول صباه، فانضمّ فى الشام إلى أحد الأديرة متنصرا على يد راهب، وخدم الدير والراهب مدة حتى مات هذا الراهب.. وكان قد اطّلع على أمور منه تدل على عدم الأمانة، إذ كان الراهب يجمع الصدقات باسم الدير، ثم يكتنزها لنفسه، ولا يوزع منها على فقراء المؤمنين.. فأخبر روزبة أهل الدير بحقيقة أمره ودلهم على الأماكن التى كان يخزن فيها المال، فكشفوا عنها فوجدوها ملأى بالذهب والفضة، فنبشوا قبر الراهب وصلبوه ثم قاموا يرجمونه بالحجارة.
وجاؤوا برجل آخر ليخلفه فى رئاسة الدير، قال عنه سلمان فى ما بعد طبقا لرواية ابن عساكر فى «تاريخ دمشق»: «ولا والله ما رأيت رجلا قط يصلى الخمس أرى أنه أفضل منه ولا أشد اجتهادا ولا أزهد فى الدنيا ولا أدأب ليلا ولا نهارا منه.. وما أعلمنى أحببت شيئا قط قبله».
وفى سبيل البحث عن الحقيقة التى ترضى القلب وتقنع العقل، ظل روزبة مهاجرا ومتنقلا، تاركا ثراء أبيه الباذخ حتى انتهت به الرحلة إلى أن بيع رقيقا لأحد اليهود بالمدينة.. وعلى الفور توجه روزبة إلى النبى محمد (صلى الله عليه وسلم)، وأعلن إسلامه على يديه، وفى ذلك الوقت غيّر النبى اسمه إلى سلمان جريا على عادته مع الأشخاص الذين يأتونه لإعلان إسلامهم وتكون لهم أسماء غريبة أو غير مستساغة.. وحاول الشيعة فى ما بعد تسميته سلمان المحمدى، لكن الاسم لم يتعمم.
لا يوجد ذِكر لسلمان فى معركتَى بدر وأحد، وإنما يبرز اسمه فجأة فى معركة الخندق (5 هجرية)، وكان قد أشار على النبى (صلى الله عليه وسلم) بأن يحفر الخندق حول المدينة.. وكان سلمان يعرف هذا الشكل من التحصينات غير المعروفة فى الجزيرة، لأن الحروب الجاهلية لم تكن فى حاجة إلى هذه الوسائل الدفاعية. ونعيش هذا المشهد وهذا الحدث الفارق فى حياة سلمان ومسيرة الإسلام مع الوصف التفصيلى البديع للمبدع خالد محمد خالد الذى سجله فى كتابه الأشهر «رجال حول الرسول»:
«كان ذلك يوم الخندق. فى السنة الخامسة للهجرة. إذ خرج نفر من زعماء اليهود قاصدين مكة، مؤلبين المشركين ومحزّبين الأحزاب على رسول الله والمسلمين، متعاهدين معهم على أن يعاونوهم فى حرب حاسمة تستأصل شأفة هذا الدين الجديد.
ووضعت خطة الحرب الغادرة، على أن يهجم جيش قريش وغطفان على المدينة من خارجها، بينما يهاجم بنو قريظة من الداخل، ومن وراء صفوف المسلمين، الذين سيقعون آنئذ بين شقى رحى تطحنهم، وتجعلهم ذكرى!
وفوجئ الرسول والمسلمون يوما بجيش لجب يقترب من المدينة فى عدة متفوقة وعتاد مدمدم.
وأُسقِطَ فى أيدى المسلمين، وكاد صوابهم يطير من هول المباغتة.
وصوّر القرآن الموقف، فقال الله تعالى:
(ذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا) (الأحزاب: ١٠).
أربعة وعشرون ألف مقاتل تحت قيادة أبى سفيان وعُيَيْنة بن حصن يقتربون من المدينة ليطوقوها وليبطشوا بطشتهم الحاسمة كى ينتهوا من محمد ودينه، وأصحابه.
وهذا الجيش لا يمثل قريشا وحدها.. بل ومعها كل القبائل والمصالح التى رأت فى الإسلام خطرا عليها.
إنها محاولة أخيرة وحاسمة يقوم بها جميع أعداء الرسول: أفرادا، وجماعات، وقبائل، ومصالح.
ورأى المسلمون أنفسهم فى موقف عصيب..
وجمع الرسول أصحابه ليشاورهم فى الأمر..
وطبعا، أجمعوا على الدفاع والقتال.. ولكن كيف الدفاع؟
هنالك تقدم الرجل طويل الساقين، غزير الشعر، الذى كان الرسول يحمل له حبا عظيما، واحتراما كبيرا.
تقدّم سلمان الفارسى وألقى من فوق هضبة عالية نظرة فاحصة على المدينة، فألفاها محصنة بالجبال والصخور المحيطة بها.. بيد أن هناك فجوة واسعة، ومهيأة، يستطيع الجيش أن يقتحم منها الحمى فى يسر.
وكان سلمان قد خبر فى بلاد فارس الكثير من وسائل الحرب وخدع القتال، فتقدم للرسول صلى الله عليه وسلم بمقترحه الذى لم تعهده العرب من قبل فى حروبها.. وكان عبارة عن حفر خندق يغطى جميع المنطقة المكشوفة حول المدينة.
والله يعلم، ماذا كان المصير الذى كان ينتظر المسلمين فى تلك الغزوة لو لم يحفروا الخندق الذى لم تكد قريش تراه حتى دوختها المفاجأة، وظلت قواتها جاثمة فى خيامها شهرا وهى عاجزة عن اقتحام المدينة، حتى أرسل الله تعالى عليها ذات ليلة ريحا صرصرا عاتية اقتلعت خيامها، وبدّدت شملها.
ونادى أبو سفيان فى جنوده آمرا بالرحيل إلى حيث جاؤوا فلولا يائسة منهوكة!
خلال حفر الخندق كان سلمان يأخذ مكانه مع المسلمين وهم يحفرون ويدأبون.. وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يحمل معوله ويضرب معهم. وفى الرقعة التى يعمل فيها سلمان مع فريقه وصحبه، اعترضت معولهم صخور عاتية..
كان سلمان قوى البنية شديد الأسر، وكانت ضربة واحدة من ساعده الوثيق تفلق الصخر وتنشره شظايا، ولكنه وقف أمام هذه الصخرة عاجزا.. وتواصى عليها بمن معه جميعا فزادتهم رهقا!
وذهب سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأذنه فى أن يغيّروا مجرى الحفر تفاديا لتلك الصخرة العنيدة المتحدية.
وعاد الرسول عليه الصلاة والسلام مع سلمان يعاين بنفسه المكان والصخرة..
وحين رآها دعا بمعول، وطلب من أصحابه أن يبتعدوا قليلا عن مرمى الشظايا..
وسمّى بالله، ورفع كلتا يديه الشريفتين القابضتين على المعول فى عزم وقوة، وهوى به على الصخرة، فإذا بها تنثلم، ويخرج من ثنايا صدعها الكبير وهج عالٍ مضىء.
ويقول سلمان: لقد رأيته يضىء ما بين لابَتَيْها، أى يضىء جوانب المدينة.. وهتف رسول الله صلى الله عليه وسلم مكبرا:
«الله أكبر.. أُعطِيتُ مفاتيح فارس، ولقد أضاء لى منها قصور الحيرة، ومدائن كسرى، وإن أمتى ظاهرة عليها».
ثم رفع المعول، وهوت ضربته الثانية، فتكررت الظاهرة، وبرقت الصخرة المتصدعة بوهج مضىء مرتفع، وهلل الرسول عليه السلام مكبِّرا:
«الله أكبر.. أُعطِيتُ مفاتيح الروم، ولقد أضاء لى منها قصورها الحمراء، وإن أمتى ظاهرة عليها».
ثم ضرب ضربته الثالثة فألقت الصخرة سلامها واستسلامها، وأضاء برقها الشديد الباهر، وهلل الرسول وهلل المسلمون معه.. وأنبأهم أنه يبصر الآن قصور سوريا وصنعاء وسواها من مدائن الأرض التى ستخفق فوقها راية الله يوما، وصاح المسلمون فى إيمان عظيم:
هذا ما وعدَنا الله ورسوله. وصدق الله ورسوله!
كان سلمان صاحب المشورة بحفر الخندق.. وكان صاحب الصخرة التى تفجر منها بعض أسرار الغيب والمصير، حين استعان عليها برسول الله صلى الله عيه وسلم، وكان قائما إلى جوار الرسول يرى الضوء، ويسمع البشرى.. ولقد عاش حتى رأى البشرى حقيقة يعيشها، وواقعا يحياه، فرأى مدائن الفرس والروم..
رأى قصور صنعاء وسوريا ومصر والعراق..
رأى جنبات الأرض كلها تهتز بالدوىّ المبارك الذى ينطلق من ربا المآذن العالية فى كل مكان مشعا أنوار الهدى والخير!».
واشتهر عن سلمان أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يجتمع به فى لقاءات متكررة كانت تتم بينهما على انفراد وتستمر ساعات طويلة، ويذكر أبو نعيم فى «حلية الأولياء» عن أبى الدرداء -وكان متآخيا مع سلمان- قوله: «إن فيكم رجلا كان رسول الله إذا خلا به لم يبغِ أحدا غيره».. وأخرج بن عبد البر فى «الاستيعاب» عن عائشة: «كان لسلمان مجلس من رسول الله ينفرد به فى الليل حتى كاد يغلبنا على رسول الله» والضمير فى «يغلبنا» عائد إلى زوجات النبى.
ويروى ابن عساكر عن علِى بن أبى طالب قوله عن سلمان: «أدرك علم الأولين والآخرين.. من لكم بلقمان الحكيم».. وينقل ابن عبد البر عن أبى هريرة قوله عن سلمان: «كان صاحب الكتابين» بمعنى الإنجيل والقرآن.
وفى ضوء هذه الحقائق، وارد أن تكون لسلمان ثقافة متميزة عن بقية أصحابه المسلمين.. وقد وردتنا قطوف وشذرات تدل على عقلية فاحصة ربما اتصلت بخلفية معرفية معينة.
ومن روائع ما يُؤثَر عنه رسالته الجوابية إلى أبى الدرداء، وكان النبى (صلى الله عليه وسلم) قد آخى بينه وبين سلمان، وفى الأيام الأخيرة من حياته عاش أبو الدرداء فى بلاد الشام، فأرسل إلى سلمان رسالة يدعوه فيها إلى الرحيل إلى بيت المقدس حتى يحظى بشرف وثواب الموت هناك.. فكان رد سلمان قطعة من الحكمة الخالصة:
«إن الأرض لا تقدس أحدا وإنما يقدس كل إنسان عمله».
وعند الشيعة الإمامية فسلمان هو أحد الأركان الأربعة.. ويطلق هذا الاسم إلى جانب سلمان على ثلاثة من كبار الصحابة انحازوا إلى على بن أبى طالب، فكانوا دائما معه وهم أبو ذر الغفارى وعمار بن ياسر، ويختلفون على الرابع فيذكر بعضهم المقداد بن عمرو، وبعضهم حذيفة بن اليمان.. واختصوا سلمان بمعجزات وكرامات ليست لغيره من الأركان الأربعة، فقد كان -كالمسيح- يعلم ما يجرى فى البيوت من خفايا، وتنبأ بمذبحة كربلاء وهو يمر بها فى طريقه إلى المدائن! ولحلاقى الشيعة عناية خاصة بسلمان لأنهم يقولون إنه كان حلاق النبى.
وفى مرضه الذى مات فيه دخل عليه سعد بن أبى وقاص يعوده، فبكى سلمان فقال له سعد: «ما يبكيك يا أبا عبد الله؟ لقد تُوُفّى رسول الله وهو عنك راضٍِ»، فأجابه سلمان: «والله ما أبكى جزعا من الموت ولا حرصا على الدنيا، ولكن رسول الله عهد إلينا فقال: ليكن حظ أحدكم من الدنيا مثل زاد الراكب، وها أنا ذا حولى هذه الأساود».. يعنى بالأساود الأشياء الكثيرة».
ويعلق سعد على هذه الجملة فيقول: «فنظرت فلم أرَ حوله إلا جفنة يأكل فيها ومطهرة يشرب منها ويتوضأ».
وعن موته يروى أن رسول الله قال له: «إذا حضرتك الوفاة حضر أقوام يحبون الطيب ولا يأكلون الطعام»، وهذه إشارة إلى الملائكة. لذلك لما احتُضر أخرج صُرّة مسك كان النبى قد أهداها إليه، فنضحها من حوله وطلب من زوجته أن تخرج وتغلق الباب.. فخرجت، ولما رجعت وجدته قد مات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق